صفقة القرن: بلدية فلسطين بدلا من دولة فلسطين
مدار الساعة - منذ وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، كان شديد الصدق في تنفيذ وعوده الانتخابية في ما يتعلق بالدعم المطلق لإسرائيل، لا بل في المزايدة أحياناً على ما تطمح إليه أشد الدوائر صهيونيةً في تل أبيب نفسها. فَعَلَ ترامب ذلك، ولا يزال، أولاً لأهداف داخلية تتعلق بسعي دؤوب إلى استمالة مزيد من أصوات أتباع كنائس أميركية مسيحية إنجيلية معروفة دينياً وأيديولوجياً وسياسياً بولائها المطلق لإسرائيل كمشروع صهيوني لا كحكومة بالضرورة، في ظل عجزه عن انتزاع ولاء قسم كبير من يهود أميركا، ذوي الهوى "الديمقراطي" الغالب حتى اليوم، وكذلك تطبيقاً لرؤية أيديولوجية صهيونية خصوصاً لدى الفريق المحيط بترامب، من أقارب ووزراء ومستشارين ومقربين. هنا لا تعود مهمة معرفة ما إذا كان ترامب شخصياً يعبأ بأكثر من تمتين وضع إسرائيل لتكون صاحبة مكانة لا تنافَس من بين حلفاء أميركا في المنطقة، بشكل يمكن الاعتماد عليها ككبرى الوكلاء في الإقليم ولتحظى بالتفاف عربي ضد ما يرغب ترامب بأن يكون "العدو المشترك": إيران.
"سرعة تنفيذ ترامب وعوده الانتخابية عموماً، الإسرائيلية منها خصوصاً، سمة ثابتة لسنوات رئاسته. أدرك الرجل أنه يصعب وصول رئيس أميركي "إسرائيلي" أكثر منه، فتعامل مع هداياه لتل أبيب على اعتبار أن الولاية الرئاسية الثانية غير مضمونة، فحري به بالتالي تكريس الأمر الواقع قانونياً وعملياً بشكل يصبح صعباً أو مستحيلاً على خليفته التراجع عن حذف كل قضايا الحل النهائي من الوجود: اعتماد واشنطن القدس عاصمةً لإسرائيل، واعتبار الجولان أرضاً إسرائيلية، والمستوطنات جزءاً طبيعياً من الدولة العبرية، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) ولاجئيها عنوانين لقضية انتهت بالتالي وجب سحب الاعتراف بها أو وقف التمويل عنها، هذا عدا عن إغلاق المكتب التمثيلي للسلطة الفلسطينية في واشنطن واعتبار معاداة الصهيونية فرداً أصيلاً من عائلة معاداة السامية، وتجريم مقاطعة إسرائيل على غرار الموضة العالمية التي افتتحها ترامب، ولحقته فيها عواصم أوروبية رئيسية، كباريس ولندن، وقد يكون الآتي أعظم. وفي إطار تنفيذه سياسات لم تكن إسرائيل تحلم بمثلها، ابتدع ترامب أسلوباً جديداً في العلاقات السياسية الدولية، وهو التنفيذ قبل الإعلان، تنفيذ خطوات جذرية على الأرض بالتقسيط، لكن بوتيرة متسارعة، بشكل يكسر مفعول الصدمة التي قد تنفجر مقاومةً مسلحة أو انتفاضة شعبية، مع ترويض وتيرته متسارعة أيضاً لكل ما يمكن أن يعكّر صفو التطبيق، أي لبلدان عربية مركزية. لكن سرعان ما وجد ترامب أنه غير مضطر أصلاً لممارسة ذلك الضغط على عواصم العرب، في ظل تطوع العديد منها إلى عرض المساعدة في الضغط على الفلسطينيين ليقبلوا بالفتات المعروض عليهم في مقابل الاستسلام الكامل، (فلنتذكر ضغوط محمد بن سلمان ومحمد بن زايد وعبد الفتاح السيسي على محمود عباس)، والتكفل بالشق الاقتصادي من "صفقة القرن" لجمع خمسين أو ستين ملياراً من الدولارات لتوزيعها على بلدان عربية تستضيف لاجئين فلسطينيين، ولتوفير استثمارات داخل الأراضي المحتلة أو في مدن اللجوء، فجاء مؤتمر البحرين اليتيم صيف العام الماضي، 2019، لهذه الغاية. في المقابل، أدركت بعض البلدان أنها لن تحظى بأي من جوائز الترضية مالياً من صفقة القرن، فقررت التخلص من اللاجئين الفلسطينيين على طريقتها، فاختفت مخيمات من الوجود، اليرموك وإخوته نماذج في سورية.
والتنفيذ الأميركي ــ الإسرائيلي المشترك، قبل الإعلان الأميركي، حيلة وفرت متاعب كثيرة على تل أبيب. التنفيذ عندما بدأ بإعلان واشنطن القدس عاصمة لإسرائيل بالنسبة إليها، أرادته جسّ نبض عربي وإسلامي لتقرر مواصلة تنفيذ بقية البنود من عدمه أو تعديله. واعترف مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى بالفعل بذلك، ولاحظوا كم أن ردة الفعل العربية، الرسمية والشعبية كانت متواضعة، أو بشكل أدق لا تشكل خطراً على أمن إسرائيل أو أميركا، فقررت واشنطن مواصلة السير بالمشروع بسرعة أكبر، فأتى ما أتى من اعتراف بالمستوطنات وبالجولان أرضاً إسرائيلية ووقف الاعتراف بالأونروا... هكذا، حصل إعلان ترامب كتحصيل حاصل وكأنه إعلان لفظي وليس تكريساً لما تم تطبيقه على الأرض، بينما هو العكس تماماً، صياغة سياسية منمقة للتفاوض على تفاصيل ومواعيد شطب القضية الفلسطينية، لا على سلام أو إقامة دولة.
"صفقة القرن (أو فرصة القرن مثلما سماها مرة عبد الفتاح السيسي)، جار تنفيذها منذ ما قبل وصول ترامب إلى الرئاسة فعلياً، لكنها تمأسست معه. صفقة حملت تسميات عديدة قبل أن ترسو على النعت الكاذب: فما هو حاصل ليس بصفقة تتطلب، تعريفاً، طرفين اثنين، لا واحداً يفرض إملاءات الاستسلام على الآخر. طيلة السنوات الثلاث لرئاسة دونالد ترامب، ظلت هناك ثوابت لـ"صفقة القرن"، في مقابل تفاصيل قابلة للتعديل: الثوابت كانت ولا تزال: شطب احتمال قيام دولة فلسطينية بكل الوسائل والتفاصيل، واستبدال الدولة بإطار شبيه بالبلدية، بلا سيادة ولا سلاح ولا أي مقومات للحياة، يكون خاضعاً تماماً لإسرائيل. ربما تكون للفلسطينيين حرية اختيار عاصمة تلك "البلدية" (مقطعة الأوصال) فقط بين أبو ديس أو شعفاط في محيط القدس. لا تبادل للأراضي بما أن الاستيطان لم يعد منافياً للقانون الدولي، بحسب مصطلحات وزير خارجية ترامب مايك بومبيو، بل قضم المزيد منها في الضفة وضمها إلى الدولة العبرية، بشكل لا تعود هناك حاجة للبحث في خيارات "دولة سيناء" مثلاً، أي "تبرع" مصر بكيلومترات إلى "دولة فلسطينية" في مقابل ضم إسرائيل كل المنطقة ج في الضفة (60 في المائة من مساحة الضفة وفيها معظم الموارد المائية والزراعية في فلسطين)، والأجزاء "المفيدة" من المنطقتين أ وب في إطار مشروع تبادل الأراضي القديم قِدم تفاهمات محمود عباس وإيهود أولمرت. حتى في قضية ضم الضفة إلى إسرائيل، يمكن ترك تفاصيل يتم تظهيرها لاحقاً على أنها تنازلات قبلت بتقديمها تل أبيب، مثل أن تؤجل ضم غور الأردن، وتكتفي بضم المستوطنات مؤقتاً.
لكن في الإشارة إلى "دولة سيناء"، لا يزال من غير المعروف ما إذا كانت الفكرة (إعطاء أجزاء من المنطقة المصرية للفلسطينيين أو ولتوسيع قطاع غزة)، ستكون ورقة احتياطية يمكن الاستعانة بها لإغراء الفلسطينيين بدولة ــ بلدية في غزة (موسعة) حصراً، وهنا من السخافة طبعاً استبعاد قيام الطاقم الحاكم في مصر بالتبرع بأراضٍ مصرية لتوسيع القيمة التي يحظى بها بالنسبة لواشنطن ولتل أبيب.
في خطة ترامب لم يعد هناك شيء اسمه لاجئون فلسطينيون أو قرار دولي رقم 194، ذلك أن فلسفة "الخطة" تلك تقوم على أن اللاجئين هم الذي هُجروا من فلسطين في عام 1948 حرفياً، لا أولادهم ولا أحفادهم، والأحياء من بين هؤلاء صاروا قلة، بالتالي لم تعد هناك حاجة لبقاء وكالة الأونروا، وأقصى ما يمكن فعله توزيع بعض الرشاوى على بلدان عربية مكافأة لها على توطينهم مثلاً. وفي إطار المتغيرات على صفقة القرن، السيادة على المقدسات الدينية، إذ كان ترامب يمني النفس بنقلها من الهاشميين إلى آل سعود، وهو ما بدا أنه فشل تماماً. أما المعاني المستعارة من خطط سابقة والتي أمكن تسميتها الخطّ المسيّر لـ"صفقة القرن"، فربما تكون نظرية السلام الاقتصادي الذي لم يبقَ رئيس حكومة في تل أبيب إلا ونظم لها أشعاراً وكتب عنها مؤلفات ومقالات، وهي تقوم على فرضية إمكان نزع فتيل العداء أو المواجهة بمجرد تأمين ظروف حياة مقبولة للفلسطينيين بشكل تصبح خسارتها مصدر رعب لدى هؤلاء.
فلسفة طُبّقَ جزء كبير منها في الضفة تحديداً، وهو ما يدرك فلسطينيون كثر اليوم أنه صار يمثل عقبة رئيسية أمام من يحاول تنظيم مقاومة مسلحة ضد الاحتلال، لأن الخشية من خسارة نمط حياة "مقبول" ووظيفة وراتب وكهرباء وبقية الخدمات، صارت تدفع كثيرين إلى معارضة ممارسة أي فعل قد يحرمهم من نمط الحياة ذاك. ولأنه يمكن للمرء اصطياد عصفورين بحجر واحد، ارتأى ترامب والمحيطين فيه أنه يمكن الاستفادة مالياً أيضاً من شطب القضية الفلسطينية من الوجود.
هكذا عثر مساعدو الرئيس الأميركي على أبرز ما نصت عليه مبادرة السلام العربية (قمة بيروت 2002)، وهو التطبيع العربي مع إسرائيل في مقابل "السلام العادل والشامل". هنا أيضاً أحرج ترامب من كرم بعض العرب، فنال أكثر مما اشتهى من الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة، إدانة للفلسطينيين، وضغطاً على سلطتها، وحصاراً لغزة وشيطنة لها بغطاء سياسي وإعلامي رسمي لا شك فيه، في بلدان لا حرية صحافة فيها أصلاً ولا حرية تعبير لكي يتم وضع غرام مسؤولين سعوديين وإماراتيين بإسرائيل وبحروبها في خانة التعبير عن الرأي مثلاً. وهنا لمعت أمام ترامب فكرة الاستفادة من هذا "الكرم" ليكون عنواناً للابتزاز المالي لتغطية نفقات صفقة القرن واستثماراتها ورشوة من تجدر رشوته في الإقليم وفي السلطة الفلسطينية للتوقيع عليها أو للصمت عن كارثتها.