إعلام الدخلاء والجهلاء والنشطاء

مدار الساعة ـ نشر في 2020/01/17 الساعة 15:34
د. خلف الطاهات
سلسلة لقاءات العصف الذهني لمناقشة "حالة الإعلام" في الأردن والتي دعا اليها مستشار جلالة الملك لشؤون الإعلام والاتصال الدكتور كمال الناصر وإدارة الاعلام والمعلومات بالديوان الملكي هي البداية الصحيحة لمحاولة تشخصيص الواقع الذي يعيشه الإعلام الأردني ورصد للتحديات ووضع الحلول والمقترحات للنهوض بهذه القضايا التي تحول دون تمكين الإعلام أداء مسؤولياته كما يجب. كنت من بين المشاركين في الجلسة الثانية، وكان النقاش يرتقى لمستوى التحديات والأهم أن مسؤولي الإعلام والاتصال بالديوان الملكي كانوا و ببراعة ينصتون باهتمام كبير لحالة الإعلام الأردني ومداخلات الزميلات والزملاء. الواقع المؤسف أن الإعلام الأردني يعيش في مرحلة "أزمة" , ولو كان الأمر غير ذلك لما تم استنفار الخبراء وأبرز الصحفيين والإعلاميين لعصف ذهني مركز لوضع تصورات النهوض بالاعلام الاردني من سباته!! وهذه الأزمة لا يتحمل طرف بعينه مسؤولية فقدان الثقه بالاعلام التقليدي ككل والرسمي بشكل خاص الأمر الذي يعني عمليا غياب التأثير المطلوب على الرأي العام وبذات الوقت إنتاج رسالة إعلامية "خجولة" تدافع عن ثوابت الدولة. فالحكومة ونقابة الصحفيين وكليات الاعلام والمؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة والتشريعات الناظمة وحتى الذوق العام للمواطنين كل هؤلاء يتحملون مسؤولية الضعف الذي اصاب الإعلام الأردني واقعده لدرجة "الشلل" أن يكون له حضور فعال وتأثير على الداخل الأردني بل أصبح دوما في قفص الاتهام لا يجرأ أن يدافع عن نفسه ولا يتجرأ أن يقف بوضوح مع مسؤولي الدولة خوفا من افرازات تصنيف الشارع وثنائية "سحيج" أو "فحيج"!! تحديات الإعلام الأردني كثيرة ومتشابكة بعضها يتصل بأزمة مالية تعيشها المؤسسات الإعلامية التقليدية وهي أزمة متراكمة وقديمة تصاعدت في ظل عدم قدرة هذه المؤسسات على قراءة حجم التحولات السريعه في إدارة المعلومات في العالم وما فرضته تكنولوجيا الاتصال الرقمي من أنماط اتصالية جديدة راح ضحيتها الإعلام التقليدي وخسر حضوره وبالتالي من جمهوره وعوائده ، وأصبح ساحة خالية من المتابعين الا من اعداد محدوده و معدودة. ليس الأزمة الاقتصادية والتطور التكنولوجي هما السبب فحسب؛ الحقيقة ان اتساع فجوة الثقة بين الحكومات الأردنية المتعاقبة والمواطن تعمقت عبر سنوات طويلة جعلت المواطن يبتعد عن تصديق أية رواية رسمية حتى لوكانت صحيحة، الأمر الذي جعل المواطن يجد في منصات التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي بديلاً رغم أن القائمين عليه في كثير منهم لا يعرف الفرق بين الحقيقة والاشاعة؛ والمؤسف الأكبر أن هذه المنصات سحبت البساط من تحت قدمي الإعلام التقليدي وصنعت ما يطلق عليهم ناشطي سوشيال ميديا والذين باتوا مصدرا للمعلومات وإنتاج القصص والروايات لا بل نجد هناك من ينتظر ما سيدلي به هؤلاء.
هذه الفوضى في إدارة الرأي العام المحلي دخل عليه كل صنوف البشر حتى أصحاب الاسبقبات الجرمية باتوا يقدمون أنفسهم على أنهم نشطاء منصات تواصل اجتماعي ويقدمون اراء ومعلومات عن الاردن كما لو كانوا يحملون الاردن ومعلوماته بحقيبه. نجحوا هؤلاء في كسب تعاطف المجتمع حينما تركت الدولة فراغا معلوماتيا وأصبحوا مصدرا جديدا ومؤثرا وهاما لدى الناس، ساعدهم في ذلك هبوط الذوق العام في مجتمع بات يتهكم على كل ما يعتقد انه لدى الحكومة انجاز أو تطوير !!!
كل ذلك يحصل والدولة تراقب والحكومة مرعوبة وناطقيها بالوزارات و المؤسسات مكبلين غير قادرين على الاشتباك مع القضايا أو الأحداث التي تتعلق بمؤسساتهم لنظرتهم لنفسهم على أنهم موظفين "لا صحفيين". من المؤسف حقاً ونحن دولة قاربنا على الاحتفال بمرور (100) عام على تأسيسها، ونحن أصحاب فضل وخبرة وكفاءات في دول عربية عديدة، ولدينا سياسة متزنة وحكم هاشمي متسامح, لم يتبلور لدينا بعد خطاب إعلامي تحدد ملامحه استراتيجية ثابتة تتعامل مع الأحداث والمستجدات بعيداً عن استجداء الأقلام أو الفزعات التقليدية التي تجعل مثل هذه المواقف عبئاً على الدولة بدلاً من أن تكون مُعيناً لها ، ومن المُخجل ايضا أن يصبح مَن يسمى في هذا الوقت ناشطاً أن يستقطب عشرات الآلاف من المتابعين ويملأ العالم الافتراضي ضجيجاً ويشكل رأياً عاماً جارفا إزاء قضايا محلية ولا تجد الدولة حلفاء في الداخل يكونوا قادرين للدفاع عن الرواية الرسمية، فيترك ميدان الوطن لرصاص الجهلاء والدخلاء والنشطاء وسلاحاً بأيدي السفهاء، ونخب الدولة يختبأون بمزارعهم أو بمكاتبهم الفارهة يترصدون فرحة تعديل حكومي هنا أو شغور موقع اعلامي هناك.
بتقديري لم يعاني الإعلام الأردني يوما من مشكلة حريات, بالعكس نتابع بقلق أن هناك حريات مفرطه misuse freedom تؤثر على المجتمع وقيمه وتقاليده والحقوق الأساسية, وباختصار الدعوة لتطوير الإعلام في الاردن حركة جادة وشجاعة ، شحذت الهمم وحركت الساكن وشخصت الواقع، ولكن لا يكفي أن نبقى طويلا في مرحلة التشخيص!! فعمليا الاردن كما هو ربما حال دول أخرى لم تستجب بالسرعة المطلوبة لإعادة التموضع مع المستجدات الرقمية والمعلوماتية, واصبح يقف على ناصية الطريق متفرجا على هياكل ومؤسسات إعلامية معطلة وغير مؤثرة أمام سطوة دخلاء و جهلاء و نشطاء يتلاعبون بالراي العام المحلي!! وهنا يبقى السؤال: هل أصبحت منصات التواصل الاجتماعي بديلاً عن المؤسسات الاعلامية وبالتالي أصبحت هذه المؤسسات حلقة مفرغة تنتج محتوى بلا قراء أو متابعين، و هل والواقع القائم كما وصف أعلاه يعني أننا سنصل لمرحلة يصبح فيه الأردن بلا إعلام!!!

رئيس فرع نقابة الصحفيين الأردنيين / الشمال

مدار الساعة ـ نشر في 2020/01/17 الساعة 15:34