قاسم سليماني ليس «غيفارا» أو«بابا نويل»
لم أكن أعرف أن قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني "بابا نويل" يوزع الهدايا على الأطفال الفقراء، ولم أعرفه "تشي غيفارا" ثائرا أمميا يُناصر ثورات الشعوب، ولم تصلني الأنباء أنه كان قاب قوسين أو أدنى من تحرير القدس، وما سكن في مخيلتي عن سليماني ـ حين سطع نجمه ـ عسكريا يزرع "ثورة" طائفية، ويُناصر "طُغاة مستبدين"، وتفتك ميليشياته التي احتضنها بأحلام وأرواح الناس في عواصم النفوذ الإيراني.
وفي الصورة الأخرى لم أكن يوما مع الاغتيالات منهجا للقصاص، ولا أرى في الصواريخ الأميركية عنوانا لتطبيق العدالة، ولا أناصر قادة تحملهم الدبابات الأميركية على ظهرها، ثم ينقلبون عليها دفاعا عن مصالحهم وأجنداتهم الطائفية.
لا أجد في الصورتين تجليات إنسانية، وحين تُقرع طبول الحرب تخسر الشعوب أحلامها على مذبح الصراعات، وتتلاشى أماني الناس بالكرامة والسلم والأمان.
هل من مُستفيد من مقتل سليماني في طهران
قتلت القوات الأميركية قاسم سليماني الزعيم العسكري الأكثر حضورا وجدلا، وصاحب الكاريزما التي فرضت سطوتها، وحضرت بقوة في ظلال المدن المهدمة، ولم يجد المرشد الأعلى على خامنئي صورة أكثر تعبيرا لإعادة انتاج الصراع الديني سوى "رسما للإمام الحسين يحتضن سليماني في السماء"، وبذلك يُعيد ترسيم الصراع وكأننا نعود لزمن ما سُمي "الحروب الصليبية" أو "الفتوح الإسلامية".
زمن جديد خلفته الصواريخ التي قتلت سليماني رفقة نائب رئيس الحشد الشعبي أبي مهدي المهندس، زمن تغيرت فيه قواعد اللعبة كثيرا، فالجيش الأميركي الذي امتنع عن تنفيذ عمليات اغتيال منذ الحرب العالمية الثانية حين أسقط طائرة الأدميرال الياباني "إيسوروكو ياماموتو"، يُنفذ ضربة موجعة للنظام الإيراني، ويُماهي بذلك العديد من عمليات الاغتيال التي اشتهر بها الموساد الإسرائيلي في تصفياته لكثير من قادة المقاومة الفلسطينية.
هل دشن الرئيس الأميركي ترامب حملته الانتخابية لرئاسة البيت الأبيض بعمل لم يجرؤ أن يفعله الرؤساء الأميركيون من قبله؟ وهل ستكون عملية قتل قاسم سليماني طوق النجاة من أزماته، أم أنها "المصيدة" التي ستُنهي أحلامه بالاستمرار بحكم أقوى بلدان العالم؟
منذ عملية الاستهداف لم يهدأ العالم، والتهديدات بين الطرفين مستمرة، ولا يتردد سياسيون وحتى عسكريون باعتبار ما حدث "إعلان حرب"، فواشنطن تؤكد أن قتل سليماني عمل دفاعي، وتربط ذلك بمسؤوليته عن مقتل أميركيين طوال السنوات الماضية، ولكن في ظلال المشهد هناك من يرى أن واشنطن هزها وأرعبها اقتحام متظاهرين ومليشيات موالية للحشد الشعبي في بغداد ساحة سفارتها، واعتبرت ذلك "خطيئة" وتجاوزا للخط الأحمر، فما جرى يذكرها بحادثة احتجاز الرهائن الأميركيين في سفارتها بطهران عام 1979، ويُعيد للذاكرة أيضا مأساة ما وقع في سفارتها في بنغازي.
في كل مكان تتواجد مليشيات إيرانية؛ تتواجد بالقرب منها قواعد أميركية
إلى أين ستنتهي المعارك الكلامية التي اشتعلت بعد مقتل سليماني، فالمرشد الأعلى "خامنئي" يعلن أن الانتقام قادم، ويذرف الدموع على "الحاج سليماني"، ورئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني "مجتبى ذو النور" يُعلن أن "أميركا لن تهنأ بتواجدها في المنطقة بعد اليوم"، وحسن نصر الله زعيم "حزب الله" في لبنان يدعو للاقتصاص من "قتلة المجاهدين"، ويعتبر ذلك "مسؤولية وأمانة وفعل كل المقاومين"، ووزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي يُصر على "انتقام ساحق"، هذه الأصوات التي تهدر بالتهديد والوعيد والانتقام، تقابلها أصوات أخرى تريد الرد على مقتل سليماني غير أنها لا ترى في الأفق حربا، فقائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي لا يُخفي أن بلاده لا تبحث عن الحرب؛ لكنها لا تخشاها.
عملية استهداف قاسم سليماني أدخلت المنطقة في الفوضى، وولدت عشرات الأسئلة الحائرة التي تبحث عن إجابات، وأقلقت كل أجهزة الاستخبارات العالمية التي تحاول أن تستقرأ السيناريوهات المقبلة، وتستشرف التداعيات التي تُهددها، وتبذل جهودا إن أمكن لتطويقها، أو تقليل الضرر الذي يمكن أن تسببه.
السيناريوهات المتداولة كثيرة، وجميعها تتفق على أن إيران سترد على قتل سليماني، والسؤال الذي يُطرح، ما هو عنوان الرد، وأين، وكيف، ومتى؟
الحرب الشاملة خيار مُستبعد لا تريده طهران ولا واشنطن، ولكن "حروب الوكالة" هي الأقرب للحدوث، وإيران تمتلك أوراقا وأدواتا كثيرة يمكن أن تستخدمها، فالحرس الثوري وأنصاره ليسوا في إيران فقط؛ بل يتواجدون في كل بقاع العالم، و"حزب الله" قوة فاعلة في لبنان وسوريا، والحشد الشعبي وتفريخاته في العراق، و"أنصار الله" "الحوثيون" في اليمن، وباختصار ففي كل مكان تتواجد المليشيات الإيرانية، تتواجد بالقرب منها قواعد أميركية، هذا عدا عن صواريخها التي ضربت في العمق السعودي.
الجواب الإيراني الأول على عملية قتل سليماني جاء سريعا بإطلاق صواريخ استهدفت قاعدتين عراقيتين تتواجد فيهما قوات أميركية.
الهجوم الصاروخي بتوقيته ومحدوديته، ربما هو محاولة رد لحفظ ماء وجه طهران وهيبتها، وربما تمرين وتسخين لمعركة استنزاف طويلة ومُرهقة لواشنطن.
ويبقى السؤال هل هذه حدود المعركة التي تُريدها القيادة الإيرانية للرد أم أنها الخطوة الأولى، وهناك في جُعبتها مفاجآت منها أن تلجأ للرد باغتيال "رأس كبير" يوازي سليماني، هل ستوعز لـ "خلاياها نائمة" أو "ذئابها المنفردة" ـ مثلما فعلت داعش ـ للضرب في أميركا وأوروبا، أم أن الأسهل استهدافها في "الخواصر الرخوة" العراق أولا، ودول الخليج ثانيا؟
الهجوم الصاروخي الإيراني رد لحفظ ماء الوجه والهيبة.. وربما تمرين لمعركة استنزاف
سيناريوهات الحرب والعمليات الانتقامية هو ما يطغى على المشهد، وآراء قليلة ترى في التصعيد الذي حدث توطئة لتسوية مقبلة تدفع واشنطن وطهران للجلوس على طاولة المفاوضات بشروط جديدة، وربما يُسجل ويُسوق ذلك على أنه نصر للرئيس ترامب الذي يشغله كيف يعود للبيت الأبيض، وكيف يستثمر الأزمات؛ ليصنع منها انتصارات.
هل يجوز أن نسأل قبل أن ينتهي الحداد على قاسم سليماني إن كان هناك من يستفيد من مقتله في طهران؟ وهل يمكن أن يساعد غيابه على فرملة قوة المتشددين، أم أن هذا الغياب التراجيدي يصنع منه "أسطورة" تقوّي تيار التشدد في إيران، وأن خليفته إسماعيل قاآني الذي عينه المرشد الأعلى فورا ليؤكد على استمرار النهج؛ سيكون لاعبا أكثر فتكا وخطورة؟
من الأسئلة التي تشغلني بعد مقتل سليماني، ما هو مصير انتفاضة ساحة التحرير في العراق، هل يمكن أن تمتلك زخما أقوى برحيل سليماني الذي كان العدو الأول للثورة العراقية، والمُحرض للمليشيات التابعة له، والتي تأتمر بأمره لقتل المحتجين في الشوارع، أم أن هذا الحدث الجلل أعاد توحيد قوى السلطة، وسحب الأضواء عن حركة الشارع العراقي، وسيُعطي مدا جديدا لرموز الطائفية تحت غطاء مُعاداة الأمريكان؟ وحتى الزعيم مقتدى الصدر الذي كان يقف في "المساحة الرمادية" أعلن إعادة جيش المهدي، وتصدر بيت العزاء في طهران.
قُبيل مقتل سليماني بقليل صدر تقرير عن المجموعة الدولية للأزمات لخص ما يحدث بالقول "العراق ليس سوى مسرح واحد تؤدي فيه واشنطن وطهران رقصتهما الخطيرة المتمثل في التصعيد المتبادل".
ويرى التقرير أن المعادلة التي كانت قائمة في العراق قد اختلت، حيث كانت أميركا قادرة على العيش بهدوء في العراق إلى جانب إيران، أما الآن فإن الاحتجاجات الشعبية تُشكل تحديا وخطرا على طهران، وطرد القوات الأميركية من العراق هو التحدي لواشنطن على المسرح العراقي.
ما هو مصير انتفاضة ساحة التحرير.. هل تمتلك زخما برحيل عدوها الأول؟
يصل التقرير إلى استخلاص مفاده "ما دامت التوترات الإقليمية بين واشنطن وطهران مستمرة، فإن تنافسهما على المسرح العراقي سيُبقي النظام العراقي مُعطلا ومُنقسما، وتعايشهما معا هم الخيار الأقل سوءا، والحل بابتعادهما عن حافة الهاوية".
قبل استهداف قاسم سليماني وبعده، وأنا استشعر أن أهم ما يجري يُحاك تحت الطاولة، وليس ما تصوره الكاميرات، واستحضرت مسلسل "Home Land"، ويتحدث عن عالم المخابرات الأميركية، وما استوقفني وأضحكني وأدهشني خيالهم الجامح في صناعة السيناريوهات، فهم جندوا نائب مدير الاستخبارات الإيرانية، وقتلوا مدير الاستخبارات بعد ذلك، فأصبح جاسوسهم هو القائد حتى يضمنوا سياسات موالية لهم مستقبلا.
ما حدث وبحدث تراجيديا سوداء تدفع فيها الشعوب في العالم العربي الثمن، فطائرات "درونز" المُسيرة تستبيح سمائهم، وصواريخها تنفذ عملياتها على أرضهم، وحتى تشييع "الغرباء" وأعلامهم تعلو في مدنهم، وكل المؤامرات والحروب تُخاض على ترابهم ويدفعون ثمنها من ثرواتهم ودمائهم، هم ليسوا أكثر من دمى على المسرح، هم ليسوا أكثر من مُتفرجين.
هل علينا أن نقلق أن حربا قادمة سنكون أول ضحاياها؟ أم نتعايش مع صناعة الأزمات التي تقود لانكسارات وتسويات وانتصارات، أم نُدير ظهورنا لكل ما يحدث فهو لا يهمنا، ليس لأنه إيجابي أو سلبي؛ بل لأن العالم العربي لم يكن يوما صانعا لحاضره حتى يخشى على مستقبله.
الحرة