الناقد المصري خالد جودة: الصالون الأدبي ليس تقليدًا غربيًّا بل هو بضاعتنا رُدَّت إلينا.
مدار الساعة - لا شك أن لكل زمن وسائله وأدواته في المعرفة والنقاش والحوار؛ وقد كان للصالونات الأدبية والفكرية أهمية كبرى، وانتشار واسع، في زمن اقتصرت فيه وسائل المعرفة على أدوات قليلة، إن لم تكن محدودة متمثلة في “الكتاب”؛ فكانت اللقاءات المباشرة للنقاش والتحاور، فيما يعرف بـ”الصالون”، وسيلة مهمة مع “الكتاب” للثراء الفكري وتبادل وجهات النظر..
فهل يمكن استعادة هذه الصالونات؟ وما الدور الذي تقدمه للمغرفة والثقافة، ولجَسْر الهوة بين الأجيال، واكتشاف المواهب ورعايتها؟.. هذه الأسئلة وغيرها نطرحها على الناقد الأدبي المصري الأستاذ خالد جودة أحمد، عضو اتحاد الكتاب، والمحاضر المركزي بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وصاحب عدد كبير من الكتب والدراسات والمقالات؛ منها: “الصهيونية في أدب باكثير.. الأديب والقصية”، “جسر الكلمات.. نقد وقراءات”، “وجبة مرة شهية التناول”.. فإلى الحوار:
*عرفت ثقافتنا العربية الحديثة ظاهرة “الصالونات الأدبية والفكرية”.. نريد أن نتعرف على نشأة هذه الصالونات؟ وهل لها امتداد قديمًا؟
– هناك للأسف فكرة مغلوطة عن تأسيس الصالونات الأدبية، أنها من مبتكرات الغرب في مطلع النهضة الأوربية خاصة في عصر لويس الرابع عشر فى فرنسا، حيث كانت هناك صالونات نسائية مشهورة، لكن الحقيقة أنها منجز عربي خالص، ولها امتدادها الأصيل في ثقافتنا الإسلامية والعربية.
والدرس التاريخي يؤيد هذا المنحى، حيث إن “بيوت القهوة” أو “مدارس الحكمة” والتى انتشرت فى القرن الخامس عشر الميلادي، كان منبتها عربيًا في اليمن، وكانت مجالس الصوفيين أول اجتماعات تناول فيها روادها مشروب القهوة، ثم انتقلت إلى باقي أنحاء العالم الإسلامي بالآلاف، وأصبحت تشبه “النوادي العامة” يلتقي فيها الناس للعب الشطرنج والحديث الثقافي المشتهى، ورواية الشعر واستماع الموسيقي. وتعرفت أوروبا على المقاهي الأدبية من اتصالها بالعالم الإسلامي خاصة فى آسيا الوسطى والأندلس، وانتقلت الظاهرة إلى فرنسا خاصة، ومنها تأسست الأفكار السياسية التى صاغت مستقبل أوروبا.
وحتى قبل شيوع المقاهي كانت الملتقيات الأدبية شعارًا للحياة الثقافية العربية، ويكفي أن نشير لعصر السيدة سكينة بنت الحسين- رضى الله عنهما- وصالونها المهم فى التاريخ الحضاري، حيث كانت تفاضل بين الشعراء وتستمع إليهم من وراء حجاب، وتتبادل الرأي معهم فى اللغة والقصيد، وكذلك صالون ولادة بنت المستكفي في قرطبة بالأندلس، وصالون “عائشة القرطبية”.
كما كانت هناك مجالس الخلفاء والأمراء والأدباء، ذات الطابع اللغوي والأدبي، مثل مجالس الأصمعي والكسائي، ومجالس هارون الرشيد والمأمون العلمية، ومنتديات القصاصين بالمساجد، بل امتدت حتى شملت دكاكين الوراقين. بل يمكن القول إنها شأن عروبي خالص منذ القدم بأسواق الشعراء في عكاظ.
بل يكفي أن نشير إلى محبة الرسول- عليه الصلاة والسلام- للشعر ورؤيته لدوره المهم، وتشجيعه للشعراء الجادين، كما كان الصحابة- رضى الله عنهم- من محبى الشعر والاجتماع لإنشاده، نموذجًا سيدنا عمر الفاروق رضى الله عنه؛ فقد كان يطلب من وفود القبائل أن يلقى شعرائهم الشعر فى حضرته، بل كان حافظًا للشعر يدعو لتعليمه وترويجه وإشباع الذوق العام من أطايب الكلم.
من هنا فإن الصالون الأدبي ليس تقليدًا غربيًّا محضًا، بل هو بضاعتنا رُدَّت إلينا.
*ما أبرز الصالونات الأدبية والفكرية في مصر كمثال؟
اشتهرت عدد من الصالونات في مصر فى القرن العشرين، وحفرت أثرًا هائلاً في الذاكرة الثقافية العربية، مثل صالون الأديبة اللبنانية “مي زيادة”، الذي استمر لمدة عشرين عامًا (1913- 1933م)، ثم في وقت لاحق صالون العقاد الشهير؛ والذي كان يعقد صباح الجمعة من كل أسبوع، وارتاد هذا الصالون ونظائره أعلام الفكر والأدب والسياسة والثقافة، فأغنوا الحياة الثقافية العربية بالمفيد. وأيضًا صالونات كانت تعقد بمقار الصحف والمجلات الثقافية المشهورة، والمؤسسات والنوادى، مثل صالون أحمد أمين فى مقر لجنة النشر للجامعيين، وصالون أحمد حسن الزيات؛ والذي كان يطلق عليه لقب “رئيس مجلس وزراء دولة الأدب” في مقر “مجلة الرسالة” الأدبية الشهيرة.
وعشرات الصالونات الأخرى منها على سبيل المثال لا الحصر، صالون د. أحمد تيمور أستاذ طب الأزهر بالجيزة والذى كان يعقد كل أسبوعين. وصالون “الوسطية” لمؤسسه د. عبدالحميد إبراهيم صاحب نظرية “الوسطية”- والذي تم إحياؤه منذ أيام برعاية نجله د. حسام الزمبيلي، وأمانة د. محمد صالحين-، وصالون د. حامد طاهر رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بدار العلوم، وصالون المعادي برعاية مؤسسه د. محمد حسن عبدالله، وصالون الناقد الراحل د. عبدالمنعم تليمة أستاذ الأدب بجامعة القاهرة، وغيرها من عشرات الصالونات.
* هل يمكن القول بأن صاحب الصالون له شروط أو صفات معينة؟ وما أبرزها؟
هناك المفهوم المحدد للصالون الثقافي والمشهور بأنه يكون فى مكان معين وثابت، وأن يحافظ على دورية انعقاده فى توقيت مستقر، وأن يكون فى رعاية شخصية تتمتع بالحضور فى قضايا الصالون وموضوعه الرئيس، أو أن يكون متبنيًا بقوة أهداف الصالون وأجندته الفاعلة.
كما أن من سماته قدرته علي تأليف القلوب وتحقيق تناغم الأفكار رغم تباينها، وتشكيل ما أسميه في عالم الصالونات الثقافية بـ”نواة الصالون الصلبة”؛ وهى المكونة من رواده الأساسيين الحريصيين على انتظام الحضور والتفاعل، وهم راضون بطريقة الصالون واتجاهه، والمحبين له لأتهم يجدون فى رحابه هواءً ثقافيًّا منعشًا يتنسمونه صفاء قلب ومحبة فكر.
ومن السمات النفسية والتي يجب أن تلازم أعضاء الصالون هي الإيمان بالحجاج لا الجدال؛ والفارق كبير بينهما إن صحت المقارنة من الأساس، فالحجاج والجدال لا صلة لهما ببعضهما، فهما على طرفي نقيض، فالحجاج يقوم علي الاتفاق للركون لقوة الإقناع، المستمد من مرجعية صالحة متفق عليها يمكن الرجوع إليها للحسم بين وجهات النظر المتباينة مثل شواهد الحكم التى لا تصادم العقل، أو المصادر المعتبرة الموثوق فيها. ويكون لمدير الصالون الناجح القدرة علي تثمير هذا التوجه وتجذيره فى صالونه بالترحيب بالآراء والتشجيع على تبادلها، وتأسيس المراجع والمصادر الموثوق بها، والترحيب بالإقناع ووجاهة الطرح للرأى.
ولا شك أن الصالونات تحتاج إلى إنسان منفتح الفكر، يتمتع بالذكاء الاجتماعي، ويتمتع بقوة الحضور الشخصي، وسعة الثقافة، ورحابة الصدر لتقبل ما يخالف طرحه من وجهات نظر منوعة. وأن يكون مؤمنًا بفكر فريق العمل؛ وهي الفكرة المنحورة في مجتمعاتنا، وسر كبير من أسرار خيبتنا وتراجعنا الحضارى.
كما يجب أن يتمتع بالمرونة والقدرة على تنويع الحوار وفقرات الصالون وتلوين أجندة الجلسة الثقافية، والتطعيم بالفقرات الفنية والحكمة والمقولات القصيرة وقصائد الشعر إلى آخره. كما يجب أن يدفع فى نفسية رواد صالونه ملكة الإنصات للآخر، وآداب المحاورة وتبادل الرأي في ود وإنصاف.
كما يجب أن يحدد صاحب الصالون برنامجه وأهدافه والإطار العام، ويمكن صوغه في “دليل” أو “لوحة إرشادية” لتقاليد الحوار وأسلوب العمل في الصالون؛ ويكون دائم التذكير بها، حتى تصبح قيمة مؤسسية للصالون.
كما يجب أن ينمي في رواد صالونه هذا الارتباط العاطفي بالجو الثقافي العام في تلك الصالونات، والحوار الممتع المغذي للعقول والأرواح، يصف شيخ الشعراء إسماعيل صبري صالون “مى زيادة” بأنها مصدر رواء للروح: (روحي على بعض الحي هائمة/ كظامئ الطير تواقًا إلى الماء).
ويتغزل الشاعر د. وحيد زايد بالصالون الثقافي الذي كان يعقده للأدباء في بلدته، وشرفت بارتياده: (ياحسن هذا المنتدى/ كالروض بلله الندى).
وإذا تحدثنا عن صفات مهمة لرواد الصالون الثقافي، مثل محبة الثقافة والصفة الاجتماعية، وقبول الآخر، فإن الصالون الثقافي يجب فى ذاته أن يتصف بسمات تعاون علي جذب محبي الثقافة وأجواء الرحم العلمي الودود.
* ما دور “الصالونات” في إثراء الحياة الفكرية والأدبية؟
أسهمت الصالونات الأدبية بنصيب وافر فى تأسيس النهضة الثقافية والفكرية للعرب في عصرنا الحديث، خصوصًا وأن روادها كانوا من ألمع نجوم الفكر والأدب والثقافة.
وبالطبع، يصعب حصر جميع الفوائد التي يمكن أن تقدمها الصالونات الأدبية في تحريك المياه الثقافية والفكرية الساكنة في مجتمعها. حيث تدور في أمسيات هذه الصالونات أغنى المناقشات حول القضايا الأدبية والفنية، فيحدث التلاقي الجميل بين المبدعين والمتلقين الفاعلين، وبين أصحاب الأفكار والمناقشين لها، وبين طرائق منوعة في التحليل والنقد، لينتجوا أغني الرؤى ويشكلوا دورهم في تحريك الأفكار وشحنها وتفاعلها الإيجابي لإثراء عالم الأدب والفن، بحيث يتحقق التقدم الحضاري والاجتماعي.
كما أن التلاحم الفكري والحوار هما من أهم العناصر لإغناء الفكر وإثراء الإبداع، وتحقيق التعايش وتجذير الإيمان بالتنوع الثقافى وضرورته، وتنمية ملكة التعايش مع الآخر المختلف وقدرة احتوائه وضمه فى نسيج جمعى ثقافى منتج لصالح المجتمع ككل.
بل كان للصالونات الأدبية دورها المهم فى الخروج من دائرة الفراغ الفكرى، وخط الاستهلاك اليومى المادى، ومد جسور الحوار والثقافة بين الأجيال والخروج من دائرة الإفلاس المفزعة والخطيرة، كما أنها ساحة تنمية الإبداع والتلاقي بين المبدع والمتلقي، واكتشاف المواهب الواعدة، وتشجيعها ودفعها فى طريقها الصحيح للفن والإبداع والفكر.
كما يمكن للصالونات الممتازة أن تروي شجرة المعارف؛ من خلال تلاقح الأفكار، وتأسيس المناهج والنظريات والطرائق لجني عسل المعرفة.
لذلك، يجب أن تدون الصالونات ما يدور فيها من حوار وتفاعلات فى مدونات منشورة، ويجرى توثيقها، وطرحها فى مطبوعات يعود إليها طلاب المعرفة للاستفادة من هذه الثروات الفكرية للصالونات الجادة.
كما أن من أهم منجزات الصالونات الفكرية قيامها وتأسيسها خدمتها للمشروعات الفكرية والوطنية الكبرى، خاصة تلك المشروعات التي تقتني المنظور الحضاري، والمنظور الأهلي لتنمية المجتمع ثقافيًا وفكريًا، وتثمير الوعي بقضايا الواقع، وترشيد مجال الرأي العام.
كما أنها تشبع حاجات اجتماعية لروادها وتغذيهم بالنافع من دهشة المعرفة، فى طقس اجتماعي محبب إلى النفوس، التي تميل بطبيعتها لحب المسامرة وأجواء الصداقة والحوار.
* إذن، يمكن القول بأن هذه الصالونات كانت لها دور في جَسْرِ الفجوة بين الأجيال، بما تتيحه من تحاور وتفاعل.
تتنوع النظرة إلى مفهوم “الجيل” من منظور نقدى، لكن المعقول أن الجيل ليس مجرد حقبة زمنية محددة، أو مرحلة ثقافية موقوتة، بل حقيقة الجيل أنه “تجرية ورؤية”، بالتالى لا يرتبط الانتماء لجيل معين بفترة عمرية محددة، بل عبر الانتماء لرؤية معينة في الفكر والثقافة.
ويصبح حينها من الضرورى تحقيق اللقاء والحوار بين هذه الرؤى والتجارب المتباينة؛ بحيث تخصب بعضها بعضًا، وتعمل على تذويب نقاط المدافعة بينها، ونفي خشونة المفاصل الفكرية والتي قد تصل لدرجة التعصب ووسم الآخر الثقافي بالجمود والنقص والتخلف.
وتعد الملتقيات بأنواعها، والصالونات من مجالات اللقاء والحوار المرجوة لكسر الحواجز بين أجيال الرؤى والمواقف، شريطة أن تقتنى طريق الحوار البناء القائم علي الحجاج لا الجدال، ورغبة الوصول إلى الحقائق، وإقرار وسيط الإقناع بالحجج والأدلة والثقافة الواسعة معيارًا ركينًا لتلك اللقاءات بين الأجيال.
هذا عن المفروض حدوثه، لكن الواقع العربى الثقافى المعاصر يشير إلى الانكفاء الذاتى للجيل أو الرؤى الأدبية، ودورانها فى رحاب ذاتها تجتر أفكارها وتبجل رموزها بلا حدود، دون رغبة أو قناعة لتقدير الآخر أو اللقاء معه لجسر الهوة بينهما، أو البحث عن لغة مشتركة للحوار لما فيه الصالح العام.
والقول برعاية الصالح العام أعنيه تمامًا، حيث إن هذا الصدام بين الأجيال له خطره علي المجتمع، لأن التعددية الثقافية لها مضار جمة؛ بينما التنوع الثقافي الحميد يعني تعددية ثقافية منضبطة بعدد من المعايير منها نفى العنصرية، وعدم تهميش الآخر الثقافى؛ ولا يتحقق هذا إلا عبر الحوار البناء والصالونات الفكرية الجادة.
لهذا نجد من السياق الفكري الذي تناول قضية “الصالونات الثقافية” أن أشهر انتقادات وُجهت لها تمثلت فى الاتهام بالنخبوية، والانغلاق، وشحوب رغبة التواصل خارج الذات الجماعية، الممثلة في الصالون. وللتغلب على هذا الانتقاد يجب أن يسارع الصالون الثقافي لضم رؤى متعددة فى إهابه، واحترام جميع الآراء المطروحة ما دامت لا تناهض أو تزدري مشاعر الآخرين ومعتقداتهم الدينية خاصة.
لذلك نجد أن أنجح الصالونات تاريخيًا هى التي ضمَّت الشباب والشيوخ معًا، كما ضمت الهواة والمتخصصين، والمؤسسين والمريدين؛ بحيث يحدث التفاعل الحي الخلاق بين الأجيال.
* هل تأثرت “الصالونات” باختلاف وسائل المعرفة والتثقيف، من الكتب الورقية إلى الفضاءات الإلكترونية؟
استقر فى المنظور النقدي المعاصر أن تنوع وسائط المعرفة، ورواج ثقافة الصورة، وسرعة الإيقاع العصري؛ قد أصاب ثقافة الصالون بالخفوت. وهذا أمر لا يمكن إلا إقراره؛ فقد أسهمتُ فى تقديم لقاء يتناول التراجم للشخصيات شهريًا فى مؤسسة ثقافية أهلية معروفة، لمدة عامين ونصف، من أغسطس 2006 حتى نوفمبر 2008، فكان الحضور فى السنة الأولى يتجاوز الخمسين شخصًا، ثم أصبح العدد يتناقص فى الشهور الأخيرة حتى أصبح لا يزيد على العشرة أشخاص. وللأمر صلة ليس فقط بوسائط المعرفة القائمة على التلقي السلبي والإبهار في الصورة، بل أيضًا بالظروف الاقتصادية وحاجات المعاش وضروراته، مع سرعة وتعقيد الإيقاع العصرى للحياة.
كما تصور البعض الآخر أن صالونات “الفضاء الأزرق” المعقودة بوسائل التواصل الاجتماعي، كالمنتديات والمدونات والفيس بوك؛ قد أضحت بديلاً عن الصالونات المباشرة حيث تلتقي الوجوه بالوحوه بعيدًا عن أقنعة الحواسيب والهويات الآلية.
ووجهة نظري أن الواقع الآن هو الاتجاه أكثر للصالونات بصيغتها العريقة؛ حيث إن التفاعل الإنساني والوداد الثقافي فى رحابها، وتحقيق هذه الصلة العلمية الكريمة بين أعضاء الصالون الواحد؛ تبدو “وردة طبيعية”، وليست علاقة افتراضية تشبة زهورًا جميلة الشكل لكنها مصنوعة من البلاسيتك الذي يفتقد الروح!
صحيح أن هذه الظاهرة تقتصر علي آداب نوعية وأعداد قليلة من المثقفين، لكنها أصبحت تتنامى بقوة؛ فالصالون الحي كنشاط اجتماعي له نسق منظم أصبح حاجة إنسانية واجتماعية في ظل التصحر الافتراضي، وهشاشة التقييم والفرز فى أنحائه.
ولا يعني رأيي هذا تقليل أهمية الوسيط الجديد أو الغض من تأثيره، إنما أقصد أن ينتفع المثقف بمزايا كل طريقة، ويتجنب عيوبها. وفي هذا الشأن نذكر أن الإنترنت نفسه أصبح منصات لتجهيز هذه الصالونات وتفعيلها والدعوة إليها، وبث مواد عنها ومن رحابها، وإذاعتها فى بث مباشر أحيانًا أثناء اللقاء، أو تجهيز تقارير ومعلومات عنها. كما أن بعض مجموعات الإنترنت من الأصدقاء تعارفوا من خلال العالم الافتراضي، ثم أسسوا بعد ذلك صالونهم الأدبي الواقعي.
*ما دور الحريات العامة، في التأثير إيجابًا أو سلبًا، في الصالونات الفكرية والأدبية، من حيث النمو أو التراجع؟
لا شك أن العلاقة طردية بين الصالون الفكري الخلاق وأجواء الحرية؛ فهي ثنائية متلازمة لا ينفصم حدها الأول عن حدها الثانى بحال من الأحوال. ويشير علماء الاجتماع إلى أن تأسيس الصالون الثقافى قائم ويحتاج بشدة إلى روح اجتماعية، وحب للمحادثة القائمة على النقد، ولا يتحقق هذا إلا في طقس مشمس تقتل فيه أشعةُ شمس الحرية الأفكارَ الضالة والمنحرفة.
وهمُّ الحرية همٌّ أساسيّ لكل مثقف حر يريد الخير لمجتمعه، ويسعى لزيادة وعيه بقضاياه الملحة، ويعاونه بالرأي فى اجتياز مشكلاته من خلال حواضن علنية للفكر والرأى، دون تخويف أو حجب أو تحقير أو غمض.
والشاهد التاريخي يحسم القضية؛ حيث تثمر الصالونات الأدبية وتشرق أشعتها بجلاء، كلما أشرقت شمس الحريات العامة وزاد نصوعها.
وفي رواية “المينا الشرقية” للروائي “محمد جبريل” حكي ممتع حول صالون ثقافي يعاني من خنق حريته، وتكبيل إرادته للحوار البناء والفعل الثقافي الكريم.
*إلى أي مدى شبابنا بحاجة لهذه الصالونات؟
تتوقف الإجابة على هذا السؤال طبقًا لرؤية مفهوم “الصالون” ذاته، فالمفهوم الشائع عن الصالون بكونه يعقد في زمان ومكان مخصوصين ويحدث تبادل الآراء فى رحابه، فطبقًا لهذا المفهوم نجده ضرورة لمجموعات معينة من الشباب المثقف الذى ينقب عن ذاته الثقافية، ويبحث عن مجاله ويتلمسه فىي الحياة الثقافية.
أما مفهوم الصالون بمعناه العام؛ القائم على لقاء أصحاب الفكر والخبرة فى الحياة وفي موضوعات كثر منوعة، بل ولقاء الشباب الذي استطاع النجاح فى حياته، وتبلورت لديه رؤية حول تغذية الحماسة للحياة ومواجهة صعابها.. فهو ضرورة للشباب، خاصة في ظل المحن الفكرية والصدمات الحضارية والاجتماعية القاسية التي يجابهها شبابنا في زمن التكوين والتأسيس النفسي والفكري بما ينذر بمخاطر داهمة.
إن الصالونات يجب أن تكون شبابية لا نخبوية، وأن تطرح عنها بؤس ثقافة التعالي والانكفاء على الذات، وأن ينضم كل من لديه فكرة صالحة أو جهد مثمر ليمد يد المعاونة للشباب فى رحاب هذه الصالونات.
*لو كان لكم صالون فكري وأدبي.. ما أبرز القضايا التي ترونها تستحق النقاش على نحو عاجل؟
القضايا الحيوية كثر، وجميعها مهمة، ويصعب حصرها؛ لكن أرى على رأسها: قضية الحوار ذاتها، وتأسيس المناخ الصحى لتبادل الآراء، وقضايا التنوع الثقافي، وحماية نسيج المجتمع من التقسيم والتنازع المفضي للهلاك.
وفى المجال الحضاري: قضايا تعزيز القيم المؤسسة للحضارة المشرقة، وأركانها من إنسانية وظفر مادى، وترويج ثقافة فرق العمل إداريًا، وقضية نفي طريقة جني النجاحات مجانًا، أو بأكذوبة الفلهوة والقدرة بلا حقيقة أو دليل.
وفى المجال الثقافي: قضايا النشر وأتراحه، وقضية المحتوى الثقافى والجودة في المنجز الثقافى عبر الوسيط الإلكتروني، وتثمير الانتفاع من الكتب المسطورة والمنظورة، وقضية الترويج للأدب الجيد وفرزة، وقضية حقيقة النقد الأدبي ودوره، إلى غير ذلك من القضايا ذات الشأن والمؤثرة.