قول الدين في التعاطي الإعلامي مع ظاهرة الانتحار..
مدار الساعة ـ نشر في 2019/12/16 الساعة 09:10
مدار الساعة - مع تزايد معدلات الانتحار في الأوساط الإسلامية، يبرز السؤال عن الكيفية المثلى للتعاطي الإعلامي مع هذه الظاهرة الجديدة في الوسط الإسلامي؟ هل تكون بتجاهله، أو تغطيته الخجولة في الصفحات المتوارية، أم تكون بإبرازه وتحليل دواعيه، وتعظيم الضوء على ملابساته؟
لا للنشر
في دراسة قام بها «ديفيد فيليبس»، البروفيسور في علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، أظهرت ارتفاعًا كبيرًا في عدد حالات الانتحار في المناطق التي تُنشر فيها أخبار عن حالة انتحار، ويسلط الإعلام الضوء عليها بصورة عالية. كما أشارت الدراسة إلى زيادة حالات الانتحار في الفترات التي تعقب نشر الجرائد الشهيرة خبرًا عن حالة انتحار. الدراسة الاجتماعية التي قام بها «ديفيد فيليبس» لم تكن سطحية، فقد ركزت في حالات الانتحار التي تم رصدها لقياس أثرها المستقبلي على أعداد المنتحرين، ركزت على الوسيلة الإعلامية التي نشرت حالة الانتحار، هل كانت عبر الراديو أو الجرائد؟ وهل كانت مجرد ذِكر عابر في نشرة أخبار أم تقريرًا مطولًا عن الحالة، وكيف كان التركيز عليها؟ لم تكن هذه الدراسة الوحيدة، بل تلتها أبحاث متعددة، تواضعت جميعها على أن أكثر العوامل تأثيرًا في انتشار الانتحار بالتقليد هو حجم التغطية الإعلامية لحالة الانتحار، فكلما زادت تغطية الانتحار واحتلت موقع الصدارة في عناوين الأخبار، زادت فرصة انتشار الحالات التي تتخذ من تلك الحالة قدوة. ومن ثمَّ نصح علماء النفس بتقليل حجم التعامل الإعلامي مع تلك الحالات، وتغطيتها بحذر شديد، ونقلها إلى الصفحات الخلفية بأخبار صغيرة، وتقليل مدة الحديث عنها في نشرات الأخبار، وتحييد الأسلوب بقدر الإمكان، بدلًا من تلميع الحكاية والتركيز على رومانسيتها.([1]) منتحر كل 40 ثانية
في تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية ، ذكرت أن شخصا واحدًا ينتحر كل 40 ثانية، أي أكثر من الذين قتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي. وتصدرت مصر قائمة البلدان العربية من حيث أعداد المنتحرين لعام 2016، حيث شهدت 3799 حالة انتحار. تبعًا للأبحاث الاجتماعية التي ذكرت، فإن إشاعة هذه الإحصاءات من شأنها أن تشجع الشخص الذي يفكر في الانتحار، فإن الشيطان يلقي في نفسه أن قرار الانتحار ليس بالضرورة أن يكون القرار الخطأ، فقد سبقك إليه في عام واحد من بلد واحد كمصر ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون شخصًا، فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء على خطأ. الانتحار كفر أم كبيرة ؟
في هذا السياق، يشعر عالم الدين بحيرة إزاء بيان حكم الانتحار، فالثابت إعلاميا وفنيًّا، أن الانتحار كفر، وأن المنتحر كافر، فجميع المسلسلات والأفلام تصف الانتحار بهذا الوصف، واللغة الإعلامية في برامج التوك شو كذلك، تصف الانتحار بالكفر. بل لا نكاد نجد منازعًا ينازع الانتحار في هذا الوصف على المستويين الإعلامي والفني، فلا يوجد سلوك آخر يوصف بالكفر في هذه الأوساط كما يوصف الانتحار. فلا غرو أن تعززت هذه الثقافة في نفوس العامة، فأصبحوا يعدُّون الانتحار كفرًا، ولئن كنا نجد في مستدرك الحاكم هذا الأثر عن أبي هريرة أنه قال: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا غير الصلاة” فبإمكاننا أن نصوغ هذه المقولة فنقول: كان عوام المسلمين ومثقفوهم لا يعدون شيئا من الأعمال كفرا غير الانتحار! وسبب الحيرة التي تنتاب عالِم الدين هنا في بيان حكم الانتحار، هو أن هذا الحكم خطأ واضح، فعقيدة أهل السنة: أن الانتحار ليس كفرًا، وأن المسلم لا يكفر بشيء من الذنوب والمعاصي، بل أكثر من ذلك: فإن عقيدة أهل السنة أن المنتحر لا يخلد في النار وإن دخلها، فلا يخلد في النار حسب عقيدة أهل السنة إلا الكفار. قال الإمام النووي: “واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا، لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود ، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه! وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولًا وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة. فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي”([2]). هل التصحيح مطلوب؟
ومكمن حيرة عالم الدين أنه بالرغم من شيوع الثقافة المغلوطة بكفر المنتحر، فقد وصل معدل الانتحار بين المسلمين إلى هذه الأرقام المفزعة، والأغلب أن هذا العدد الهائل من المنتحرين لم يقدموا على الانتحار إلا وهم يظنون أنه كفر حسب شيوع هذه الثقافة المغلوطة، فكيف لو أعلمناهم أن الانتحار ليس كفرًا، وأن المنتحر لا يخلد في النار، وأنه من الممكن أن يعفو الله عنه حسب عقيدة أهل السنة، كيف يمكن أن تصل معدلات الانتحار في الأوساط الإسلامية مع ضعف العزائم، وتراجع خلق الصبر، وتزايد المحن والمآسي الداعية إلى الاستقالة من الحياة! لقد كان من فقه سيدنا عبد الله بن عباس أنه إذا سأله القاتل: هل له توبة أم لا؟ فكان يتفرس وجهه، فإذا رآه قد قتل بالفعل رجَّاه وأطمعه في التوبة، وإذا رآه لم يفعلها بعدُ آيسه من التوبة لتنفيره من الإقدام على القتل. وكان لهذا الفقه أثره في الفضاءات المغلقة والأفق المحدودة، لكن هل يُجدي هذا الفقه الآن في الفضاءات المفتوحة التي لم يعد يخفى فيها قول، أو تستتر فيها فتوى!
في دراسة قام بها «ديفيد فيليبس»، البروفيسور في علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، أظهرت ارتفاعًا كبيرًا في عدد حالات الانتحار في المناطق التي تُنشر فيها أخبار عن حالة انتحار، ويسلط الإعلام الضوء عليها بصورة عالية. كما أشارت الدراسة إلى زيادة حالات الانتحار في الفترات التي تعقب نشر الجرائد الشهيرة خبرًا عن حالة انتحار. الدراسة الاجتماعية التي قام بها «ديفيد فيليبس» لم تكن سطحية، فقد ركزت في حالات الانتحار التي تم رصدها لقياس أثرها المستقبلي على أعداد المنتحرين، ركزت على الوسيلة الإعلامية التي نشرت حالة الانتحار، هل كانت عبر الراديو أو الجرائد؟ وهل كانت مجرد ذِكر عابر في نشرة أخبار أم تقريرًا مطولًا عن الحالة، وكيف كان التركيز عليها؟ لم تكن هذه الدراسة الوحيدة، بل تلتها أبحاث متعددة، تواضعت جميعها على أن أكثر العوامل تأثيرًا في انتشار الانتحار بالتقليد هو حجم التغطية الإعلامية لحالة الانتحار، فكلما زادت تغطية الانتحار واحتلت موقع الصدارة في عناوين الأخبار، زادت فرصة انتشار الحالات التي تتخذ من تلك الحالة قدوة. ومن ثمَّ نصح علماء النفس بتقليل حجم التعامل الإعلامي مع تلك الحالات، وتغطيتها بحذر شديد، ونقلها إلى الصفحات الخلفية بأخبار صغيرة، وتقليل مدة الحديث عنها في نشرات الأخبار، وتحييد الأسلوب بقدر الإمكان، بدلًا من تلميع الحكاية والتركيز على رومانسيتها.([1]) منتحر كل 40 ثانية
في تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية ، ذكرت أن شخصا واحدًا ينتحر كل 40 ثانية، أي أكثر من الذين قتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي. وتصدرت مصر قائمة البلدان العربية من حيث أعداد المنتحرين لعام 2016، حيث شهدت 3799 حالة انتحار. تبعًا للأبحاث الاجتماعية التي ذكرت، فإن إشاعة هذه الإحصاءات من شأنها أن تشجع الشخص الذي يفكر في الانتحار، فإن الشيطان يلقي في نفسه أن قرار الانتحار ليس بالضرورة أن يكون القرار الخطأ، فقد سبقك إليه في عام واحد من بلد واحد كمصر ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون شخصًا، فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء على خطأ. الانتحار كفر أم كبيرة ؟
في هذا السياق، يشعر عالم الدين بحيرة إزاء بيان حكم الانتحار، فالثابت إعلاميا وفنيًّا، أن الانتحار كفر، وأن المنتحر كافر، فجميع المسلسلات والأفلام تصف الانتحار بهذا الوصف، واللغة الإعلامية في برامج التوك شو كذلك، تصف الانتحار بالكفر. بل لا نكاد نجد منازعًا ينازع الانتحار في هذا الوصف على المستويين الإعلامي والفني، فلا يوجد سلوك آخر يوصف بالكفر في هذه الأوساط كما يوصف الانتحار. فلا غرو أن تعززت هذه الثقافة في نفوس العامة، فأصبحوا يعدُّون الانتحار كفرًا، ولئن كنا نجد في مستدرك الحاكم هذا الأثر عن أبي هريرة أنه قال: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا غير الصلاة” فبإمكاننا أن نصوغ هذه المقولة فنقول: كان عوام المسلمين ومثقفوهم لا يعدون شيئا من الأعمال كفرا غير الانتحار! وسبب الحيرة التي تنتاب عالِم الدين هنا في بيان حكم الانتحار، هو أن هذا الحكم خطأ واضح، فعقيدة أهل السنة: أن الانتحار ليس كفرًا، وأن المسلم لا يكفر بشيء من الذنوب والمعاصي، بل أكثر من ذلك: فإن عقيدة أهل السنة أن المنتحر لا يخلد في النار وإن دخلها، فلا يخلد في النار حسب عقيدة أهل السنة إلا الكفار. قال الإمام النووي: “واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا، لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود ، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه! وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولًا وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة. فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي”([2]). هل التصحيح مطلوب؟
ومكمن حيرة عالم الدين أنه بالرغم من شيوع الثقافة المغلوطة بكفر المنتحر، فقد وصل معدل الانتحار بين المسلمين إلى هذه الأرقام المفزعة، والأغلب أن هذا العدد الهائل من المنتحرين لم يقدموا على الانتحار إلا وهم يظنون أنه كفر حسب شيوع هذه الثقافة المغلوطة، فكيف لو أعلمناهم أن الانتحار ليس كفرًا، وأن المنتحر لا يخلد في النار، وأنه من الممكن أن يعفو الله عنه حسب عقيدة أهل السنة، كيف يمكن أن تصل معدلات الانتحار في الأوساط الإسلامية مع ضعف العزائم، وتراجع خلق الصبر، وتزايد المحن والمآسي الداعية إلى الاستقالة من الحياة! لقد كان من فقه سيدنا عبد الله بن عباس أنه إذا سأله القاتل: هل له توبة أم لا؟ فكان يتفرس وجهه، فإذا رآه قد قتل بالفعل رجَّاه وأطمعه في التوبة، وإذا رآه لم يفعلها بعدُ آيسه من التوبة لتنفيره من الإقدام على القتل. وكان لهذا الفقه أثره في الفضاءات المغلقة والأفق المحدودة، لكن هل يُجدي هذا الفقه الآن في الفضاءات المفتوحة التي لم يعد يخفى فيها قول، أو تستتر فيها فتوى!
مدار الساعة ـ نشر في 2019/12/16 الساعة 09:10