اختراع كريستوفر كولومبوس وتصنيع الشخصية الأميركية
مدار الساعة ـ نشر في 2019/12/16 الساعة 06:57
مدار الساعة - كيف حول الآباء المؤسسون للولايات المتحدة كريستوفر كولومبوس؛ البحار الإيطالي المغمور والقاتل الجماعي، إلى رمز تاريخي.
في العام 1892، قدمت “رفيقة الشباب” -وهي مجلة وطنية للأولاد، يحررها فرانسيس بيلامي (الوزير الاشتراكي المعروف أكثر بكتابه “تعهد الولاء”)- قدمت لقرائها برنامجاً للاحتفال بالذكرى السنوية الـ400 لوصول كريستوفر كولومبوس إلى العالم الجديد. وكان على كل مدرسة في الأمة، كما طلبت المجلة بجدية، أن تتبعه حرفياً.
كان على الطلاب والمحاربين القدامى أن يتجمعوا حول سارية العلم في الساعة 9:30 صباحاً وأن يبدؤوا بقراءة قصيدة الرئيس بنيامين هاريسون “نشيد لكولومبوس”، يليها رفع العلم، وغناء “بلدي، عنك أغني”، وقراءة من الكتاب المقدس تختارها شخصية دينية محلية، وأخيراً أداء أغنية “يوم كولومبوس” أصلية تم التكليف بها خصيصاً لهذا المناسبة.
كانت المئوية الرابعة لكولومبوس قيد الإعداد على مدى 100 عام، وسوف يستغرق الأمر قرناً آخر تقريباً حتى تزحف صورة أكثر نقدية ودقة من الناحية التاريخية لكولومبوس إلى داخل الوعي الأميركي.
كانت الثورة الأميركية هي التي خلقت كولومبوس الذي تعلمه معظم الذين فوق الثلاثين من العمر منا في المدرسة الابتدائية. ولم يكن قبل أواخر القرن الثامن عشر أكثر من مجرد حاشية في هامش التاريخ، وليس له أي علاقة بالمستعمرات الثلاث عشرة الأولى. وقد أبحر كولومبوس، الإيطالي، تحت العلم الأسباني ولم يهبط في أي جزء من الولايات المتحدة الحديثة. ومع ذلك، عندما نشأت الحاجة إلى تطوير تاريخ وطني لا تكون له أي صلة ملحوظة ببريطانيا خلال الثورة، تبناه الأميركيون الأوائل. وكان أشبه بلوحة فارغة يمكن للأميركيين في مرحلة ما بعد الثورة أن يكتبوا عليها الفضائل التي يريدون أن يروها في دولتهم الجديدة. وفي ذلك الحين، كما هو الحال الآن، كانت كتابة كولومبوس بمثابة عملية تعريف لمعنى أن يكون المرء أميركياً.
في العام 1775، كتبت فيليس ويتلي، وهي فتاة أميركية حرة من أصل أفريقي كان عمرها 14 عاماً، قصيدة لجورج واشنطن، والتي أثرت كثيراً في عواطف الجنرال لدرجة أنه وزعها على نطاق واسع. وفيها، استخدمت الفتاة كلمة “كولومبيا” كتمثيل مجازي للأمة الأميركية، والذي كان بلا شك تدويراً حول الشخصية الأنثوية لبريتانيا. وعلى الرغم من وجود أمثلة مكتوبة عن “كولومبيا” تعود في تاريخها إلى العام 1761، إلا أن مراسلات ويتلي الصغيرة مع الرجل الأكثر شعبية في المستعمرات جعلتها تحقق، في لغة اليوم، انتشاراً فيروسياً.
وسرعان ما ظهرت كلمات كولومبيا وكولومبوس في الأغاني والقصائد والمقالات في الصحف في كافة أنحاء المستعمرات. وقامت المؤرخة كلوديا بوشمان بتصنيف ما يقرب من 100 من الأناشيد التي نجت من تلك الحقبة، ومعظمها فظيعة. فقد تحول كولومبوس فيها من شخصية ثانوية بسيطة في تاريخ الاستكشاف الأوروبي إلى بطل أميركي بين عشية وضحاها تقريباً.
لماذا؟ حتى في ذلك الحين، كان الناس يعرفون أن الأوروبيين، بما في ذلك أساطيل صيد الفايكنج والبرتغاليين، زارت أو شاهدت أميركا الشمالية قبل كولومبوس. ولدى مستكشفين آخرين من عصر كولومبوس استحقاق أفضل لإسناد الفضل إليهم في -“اكتشاف” الأرض التي نسميها الآن الولايات المتحدة. لكن سياسة الثورة استبعدت المتنافسين الآخرين. فقد كان هنري هدسون بريطانياً. وأبحر جيوفاني كابوتو (الذي أضفيت عليه الصبغة الإنجليزية باسم “جون كابوت”) لصالح بريطانيا. وكان خوان بونس دي ليون قد استخدِم مسبقاً كبطل في إسبانيا. ولاقى جيوفاني دا فيرازانو نهاية لا تليق بأي بطل وطني مناسب، بعد أن أكله هنود كاريب في العام 1526.
وكانت لكولومبوس عيوبه الكثيرة أيضاً. فحتى وفاته، أصر علانية على أنه قد هبط حقاً في شرق آسيا كما كان ينوي في الأصل. ولم يكن بحّاراً موهوباً ولم يحقق نجاحاً في تأسيس أي مستعمرة في العالم الجديد. وبخلاف السماح له بالبدء في التقافز حول منطقة البحر الكاريبي وارتكاب أعمال نزوية وحشية في حق سكانها، فإن رحلته الشهيرة لم تنجز سوى القليل.
ومع ذلك، لم يكن أي شيء معروفاً عن كولومبوس في المستعمرات الأميركية في فجر الثورة، وهو ما عمل في صالحه. فالسجلات المكتوبة القليلة لرحلاته، بما فيها سيرة ذاتية لابنه فرديناند وتاريخ بارتولوم دي لاس كاساس من القرن السادس عشر، لم تكن متوفرة في العالم الجديد ولم تتم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية إلا بعد وقت طويل. وكان التاريخ المفصل الوحيد لكولومبوس ورحلاته والمتاح على نطاق واسع في المكتبات الاستعمارية هو الذي كتبه رجل إسكتلندي، جيمس روبرتسون، في العام 1777. وقد استخدم المؤلف لهجة عنصرية وعرقية، مصوِّراً كولومبوس كمستكشف للنوايا النبيلة، والذي جلب الحضارة إلى الهمجيين. ولعل الأهم من ذلك هو أن روبرتسون قام بتأريخ كولومبوس باعتباره رجلاً خنقته الطرائق المتصلبة في العالم القديم وتاق إلى فتح طريقه الخاص. ولم يكن المجاز في ذلك خافياً، وتبنته أميركا الثورية.
اكتسح هوس كولومبوس الأمة بداية من الحرب، لأنه أصبح، بمساعدة من تاريخ روبرتسون وفيضانات القصائد الملحمية والقصائد التي نُظمت له، رمزاً لفكرة “اسلُك طريقك وحدك” بالنسبة للشعب الأميركي. وأشار اعتماد “كولومبيا” كاسم غير رسمي للأمة الناشئة، ضمنياً، إلى أن المستعمرات كانت، مثل كولومبوس، تتخلص من نير العالم القديم. ولم تكن الدقة التاريخية ذات صلة.
سُمّيت مدن وشوارع لا حصر لعددها، بما في ذلك عواصم الولايات في ساوث كارولينا (1786) وأوهايو (1812) على اسمه. وفي العام 1784، أعادت “كينغز كوليج” في مدينة نيويورك تسمية نفسها لتصبح “جامعة كولومبيا”. وتسمّت به العديد من المنشورات -المجلة الكولومبية (1786)، المتحف الكولومبي (1791)، صحيفة السجل الكولومبي، السجل الكولمبي الأسبوعي. وتأسست المنظمة السياسية التي أصبحت في نهاية المطاف الآلة السياسية القوية لقاعة تاماني في نيويورك في العام 1786 باسم “النظام الكولومبي”. وفي العام 1791، تم اعتماد منطقة كولومبيا (التي أصبحت مقاطعة لاحقاً) لتكون العاصمة الوطنية. وبعد مرور عام، استكشف روبرت غراي، بينما يبحر في السفينة “كولومبيا”، المحيط الهادئ الشمالي الغربي، وقام بتعميد نهر كولومبيا، وسمى المنطقة بأكملها كولومبيا (التي ما تزال موجودة شمال الحدود اليوم باسم كولومبيا البريطانية). وفي العام 1798، كتب جوزيف هوبكنسون النشيد الوطني الأصلي، “حيّوا كولومبيا”.
تآمر حدثان لضمان أن لا تكون المودة الأميركية تجاه كولومبوس مجرد بدعة عابرة. أولاً، حول الأميركيون الذكرى المئوية الثالثة لكولومبوس في العام 1492 إلى احتفال ضخم. وشرعت التماثيل والنصب التذكارية لكولومبوس في الظهور في جميع أنحاء البلاد. وأقامت كل من نيويورك وبوسطن وفيلادلفيا عروضاً جماعية بقيادة ممثلين يرتدون أزياء يتقمصون بها كولومبيا وكريستوفر كولومبوس. مَن سيكون أفضل منه لقيادة أول فرصة للأمة لتحتفل بتاريخ غير مرتبط ببريطانيا والذي لم يسبق وأن حدث في الذاكرة الحية؟
بدلاً من أن تخفُت وتتلاشى، تكثفت أسطورة كولومبوس فحسب. على سبيل المثال، كان الراوية في قصيدة جويل بارلو الملحمية (وغير القابلة للقراءة تقريبًا) “الكولومبيادة” (1807) ملاكاً. وبالحكم من شعبية القصيدة، كان القليلون في ذلك الوقت يعتقدون أن إسناد صفة الإلهام الإلهي لكولومبوس (يعني: أميركا) كان مبالغاً فيه.
كانت نقطة التحول الرئيسية الثانية في إدخال كولومبوس في نسيج الهوية الأميركية هي قيام مجلة “واشنطن إيرفينغ” في العام 1828 بنشر كتاب “حياة ورحلات كريستوفر كولومبوس”. وقد زُعم أن هذا الكتاب غير الدقيق إلى حد مذهل هو تاريخ ونسخة منقحة من قصة كولومبوس الذي “أبحر في المحيط الأزرق في 000 وأربعمائة واثنين وتسعين”، والتي تم تدريسها لأجيال من الأطفال الأميركيين. وكان مثال صناعة الخرافات الذي وضعته إيرفينغ تشويهاً لدافع كولومبوس لرحلة 1492. فقد درس كولومبوس الحقيقي خرائط البحارة البرتغاليين، وخلص إلى أن جنوب شرق آسيا يقع وراء حدود الخريطة مباشرةً، وانطلق في رحلته لإثبات ذلك. وأبحر كولومبوس مجلة إيرفنغ ليثبت أن العالم مستدير، ويسخر بذلك من النخبة الأوروبية التي أصرت على أنها مسطحة. وفي جميع أنحاء الكتاب، كان كولومبوس باسلاً مقداماً، تواقاً إلى التخلص من أوروبا القديمة -وليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه، بالضبط، الصفات نفسها التي رأتها الولايات المتحدة في نفسها.
ولكن، حتى لو قورنت بأواخر القرن الثامن عشر، فلا شيء يمكن أن يضاهي “حمى كولومبوس” التي جرى توثيقها في 1892-1893 حين احتفلت البلاد بالذكرى السنوية الـ400 لرحلته بـ”مهرجان شيكاغو العالمي”، و”معرض كولومبوس”. لم يكن هناك نصب تذكاري بمثل تلك العظمة، ولا خطاب مفرط في التزييف والتمجيد والتذلل، ولا عرض واضح لرغبة الأمة في تأكيد نفسها يمكن أن يكون أوضح في أميركا 1893. كان برنامج فرانسيس بيلامي للمدارس، إذا كان ثمة شيء، محدداً بمعايير ذلك العام.
في نهاية المطاف، فعل الزمن فعله في هذا الكولومبوس البطل ونحته. بقيت خرافات إيرفينغ للعام 1828 حاضرة في كتب التاريخ، والتقاليد الشفوية، والمناهج المدرسية طوال القرن العشرين. لكن الأسطورة بدأت تتقاسم الحيز مع اعتراف متزايد، وإن كان ما يزال غير كاف، بالفظائع التي ارتكبها كولومبوس في حق سكان الأميركتين خلال ما يسمى “عصر الاستكشاف”. وتم تخفيض وصف وصوله إلى القارة الأميركية في العام 1492 (بشكل مناسب) من “اكتشاف” إلى توصيفات “لقاء” أو “تبادل” الأكثر واقعية، واعترف الأميركيون ببطء بأن كلمة “اكتشاف” هي وصف سيئ لعمل رجل هبط على سواحل جزيرة يقطنها أشخاص آخرون مسبقاً.
والأهم من ذلك، أنه مع ازدياد عدد الأميركيين (قليلاً) من أولئك الأكثر ارتياحاً مع مواجهة الجوانب الأكثر قتامة من التاريخ، ارتفع صوت النقاش حول استرقاق كولومبوس للسكان الذين قابلهم، وقتله إياهم من دون محاكمة، وتجريدهم من ممتلكاتهم، إلى ما فوق الهمس لأول مرة خلال الذكرى السنوية الـ500 المقنّنة كثيراً في العام 1992. وأكد المؤرخون والنقاد الثقافيون بطريقة مقنعة أن التمجيد لا يليق بالرجل الذي كتب، “دعونا باسم الثالوث المقدس نواصل إرسال جميع العبيد الذين يمكن بيعهم”، بينما قام بجمع 1.500 من سكان أراواك في صغرى جزر الأنتيل لبيعهم في إسبانيا. وقام بارتولوم دي لاس كاساس، في روايته الصادرة في العام 1561 والمستندة إلى روايات من طاقم كولومبوس، بوصف كولومبوس كرجل كان القتل العمد نشاطه الترفيهي. ومرة أخرى، كان كولومبوس نائباً، هذه المرة عن أميركا تبذل جهداً أخرقَ ومتأخراً جداً للتصدي لجزء مخجل من التاريخ.
اعتمد المستعمرون الأميركيون كولومبوس كرمز ثقافي بسبب الحاجة العملية إلى بناء هوية تاريخية وطنية تستبعد بريطانيا. وكان الاحتفال بكولومبوس، في جزء كبير من التاريخ الأميركي، بمثابة تمرين في إبراز الفضائل التي نود أن نراها في أنفسنا وفي بلدنا.
واليوم، في أميركا تتعلم قبول أسطورة كولومبوس كسيرة ذاتية، أصبح استخدام كولومبوس كمجاز وطني يبدو ساذجاً وعتيق الطراز. ولا يستطيع سوى الجهل المتعمد بالسجل التاريخي أن يحتفظ به اليوم كرحالة مستنير اكتشف وجلب البركات إلى أرض مجهولة.
لكن صدى كولومبوس الحقيقي -وليس الأسطوري الذي جرى تخليقه- يجب أن يتردد في أميركا المعاصرة. لقد انطلق كولومبوس في رحلته ليعثر على آسيا، وهبط في منطقة الكاريبي، وأصر حتى وفاته، في مواجهة مواجهة أدلة دامغة، على أنها كانت آسيا حقاً. وبدلاً من الاحتفال بما أنجزه فعلاً، والاعتراف بأن الحظ كانت له يد في نجاحه، أو إدراك الفظائع والأهوال التي تسبب فيها، دافع عن نفسه بطريقة لا يخالطها اعتذار أو ندم وألقى باللوم عن أي إشارة إلى الفشل أو عدم الكفاءة على الآخرين. وقد أنقذ أميركيو القرن الثامن عشر كولومبوس -الذي كان غامضاً آنذاك- من تاريخ الغزو الإمبريالي الأوروبي لأسباب سياسية فريدة مقتصرة على شروط تلك الحقبة. ولم يكن بوسعهم أن يعرفوا كم سيكون كولومبوس الحقيقي حكاية تحذيرة للولايات المتحدة في العام 2017. *أستاذ مساعد بجامعة برادلي. وهو يقيم في شيكاغو، ويكتب في السياسة في مدونة “جين وتاكوس”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Invention of Christopher Columbus, American Hero ترجمة: علاء الدين أبو زينة إدوارد بورميلا* – (ذا نيشن) 10/9/2017 ala.zeineh@alghad.jo
في العام 1892، قدمت “رفيقة الشباب” -وهي مجلة وطنية للأولاد، يحررها فرانسيس بيلامي (الوزير الاشتراكي المعروف أكثر بكتابه “تعهد الولاء”)- قدمت لقرائها برنامجاً للاحتفال بالذكرى السنوية الـ400 لوصول كريستوفر كولومبوس إلى العالم الجديد. وكان على كل مدرسة في الأمة، كما طلبت المجلة بجدية، أن تتبعه حرفياً.
كان على الطلاب والمحاربين القدامى أن يتجمعوا حول سارية العلم في الساعة 9:30 صباحاً وأن يبدؤوا بقراءة قصيدة الرئيس بنيامين هاريسون “نشيد لكولومبوس”، يليها رفع العلم، وغناء “بلدي، عنك أغني”، وقراءة من الكتاب المقدس تختارها شخصية دينية محلية، وأخيراً أداء أغنية “يوم كولومبوس” أصلية تم التكليف بها خصيصاً لهذا المناسبة.
كانت المئوية الرابعة لكولومبوس قيد الإعداد على مدى 100 عام، وسوف يستغرق الأمر قرناً آخر تقريباً حتى تزحف صورة أكثر نقدية ودقة من الناحية التاريخية لكولومبوس إلى داخل الوعي الأميركي.
كانت الثورة الأميركية هي التي خلقت كولومبوس الذي تعلمه معظم الذين فوق الثلاثين من العمر منا في المدرسة الابتدائية. ولم يكن قبل أواخر القرن الثامن عشر أكثر من مجرد حاشية في هامش التاريخ، وليس له أي علاقة بالمستعمرات الثلاث عشرة الأولى. وقد أبحر كولومبوس، الإيطالي، تحت العلم الأسباني ولم يهبط في أي جزء من الولايات المتحدة الحديثة. ومع ذلك، عندما نشأت الحاجة إلى تطوير تاريخ وطني لا تكون له أي صلة ملحوظة ببريطانيا خلال الثورة، تبناه الأميركيون الأوائل. وكان أشبه بلوحة فارغة يمكن للأميركيين في مرحلة ما بعد الثورة أن يكتبوا عليها الفضائل التي يريدون أن يروها في دولتهم الجديدة. وفي ذلك الحين، كما هو الحال الآن، كانت كتابة كولومبوس بمثابة عملية تعريف لمعنى أن يكون المرء أميركياً.
في العام 1775، كتبت فيليس ويتلي، وهي فتاة أميركية حرة من أصل أفريقي كان عمرها 14 عاماً، قصيدة لجورج واشنطن، والتي أثرت كثيراً في عواطف الجنرال لدرجة أنه وزعها على نطاق واسع. وفيها، استخدمت الفتاة كلمة “كولومبيا” كتمثيل مجازي للأمة الأميركية، والذي كان بلا شك تدويراً حول الشخصية الأنثوية لبريتانيا. وعلى الرغم من وجود أمثلة مكتوبة عن “كولومبيا” تعود في تاريخها إلى العام 1761، إلا أن مراسلات ويتلي الصغيرة مع الرجل الأكثر شعبية في المستعمرات جعلتها تحقق، في لغة اليوم، انتشاراً فيروسياً.
وسرعان ما ظهرت كلمات كولومبيا وكولومبوس في الأغاني والقصائد والمقالات في الصحف في كافة أنحاء المستعمرات. وقامت المؤرخة كلوديا بوشمان بتصنيف ما يقرب من 100 من الأناشيد التي نجت من تلك الحقبة، ومعظمها فظيعة. فقد تحول كولومبوس فيها من شخصية ثانوية بسيطة في تاريخ الاستكشاف الأوروبي إلى بطل أميركي بين عشية وضحاها تقريباً.
لماذا؟ حتى في ذلك الحين، كان الناس يعرفون أن الأوروبيين، بما في ذلك أساطيل صيد الفايكنج والبرتغاليين، زارت أو شاهدت أميركا الشمالية قبل كولومبوس. ولدى مستكشفين آخرين من عصر كولومبوس استحقاق أفضل لإسناد الفضل إليهم في -“اكتشاف” الأرض التي نسميها الآن الولايات المتحدة. لكن سياسة الثورة استبعدت المتنافسين الآخرين. فقد كان هنري هدسون بريطانياً. وأبحر جيوفاني كابوتو (الذي أضفيت عليه الصبغة الإنجليزية باسم “جون كابوت”) لصالح بريطانيا. وكان خوان بونس دي ليون قد استخدِم مسبقاً كبطل في إسبانيا. ولاقى جيوفاني دا فيرازانو نهاية لا تليق بأي بطل وطني مناسب، بعد أن أكله هنود كاريب في العام 1526.
وكانت لكولومبوس عيوبه الكثيرة أيضاً. فحتى وفاته، أصر علانية على أنه قد هبط حقاً في شرق آسيا كما كان ينوي في الأصل. ولم يكن بحّاراً موهوباً ولم يحقق نجاحاً في تأسيس أي مستعمرة في العالم الجديد. وبخلاف السماح له بالبدء في التقافز حول منطقة البحر الكاريبي وارتكاب أعمال نزوية وحشية في حق سكانها، فإن رحلته الشهيرة لم تنجز سوى القليل.
ومع ذلك، لم يكن أي شيء معروفاً عن كولومبوس في المستعمرات الأميركية في فجر الثورة، وهو ما عمل في صالحه. فالسجلات المكتوبة القليلة لرحلاته، بما فيها سيرة ذاتية لابنه فرديناند وتاريخ بارتولوم دي لاس كاساس من القرن السادس عشر، لم تكن متوفرة في العالم الجديد ولم تتم ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية إلا بعد وقت طويل. وكان التاريخ المفصل الوحيد لكولومبوس ورحلاته والمتاح على نطاق واسع في المكتبات الاستعمارية هو الذي كتبه رجل إسكتلندي، جيمس روبرتسون، في العام 1777. وقد استخدم المؤلف لهجة عنصرية وعرقية، مصوِّراً كولومبوس كمستكشف للنوايا النبيلة، والذي جلب الحضارة إلى الهمجيين. ولعل الأهم من ذلك هو أن روبرتسون قام بتأريخ كولومبوس باعتباره رجلاً خنقته الطرائق المتصلبة في العالم القديم وتاق إلى فتح طريقه الخاص. ولم يكن المجاز في ذلك خافياً، وتبنته أميركا الثورية.
اكتسح هوس كولومبوس الأمة بداية من الحرب، لأنه أصبح، بمساعدة من تاريخ روبرتسون وفيضانات القصائد الملحمية والقصائد التي نُظمت له، رمزاً لفكرة “اسلُك طريقك وحدك” بالنسبة للشعب الأميركي. وأشار اعتماد “كولومبيا” كاسم غير رسمي للأمة الناشئة، ضمنياً، إلى أن المستعمرات كانت، مثل كولومبوس، تتخلص من نير العالم القديم. ولم تكن الدقة التاريخية ذات صلة.
سُمّيت مدن وشوارع لا حصر لعددها، بما في ذلك عواصم الولايات في ساوث كارولينا (1786) وأوهايو (1812) على اسمه. وفي العام 1784، أعادت “كينغز كوليج” في مدينة نيويورك تسمية نفسها لتصبح “جامعة كولومبيا”. وتسمّت به العديد من المنشورات -المجلة الكولومبية (1786)، المتحف الكولومبي (1791)، صحيفة السجل الكولومبي، السجل الكولمبي الأسبوعي. وتأسست المنظمة السياسية التي أصبحت في نهاية المطاف الآلة السياسية القوية لقاعة تاماني في نيويورك في العام 1786 باسم “النظام الكولومبي”. وفي العام 1791، تم اعتماد منطقة كولومبيا (التي أصبحت مقاطعة لاحقاً) لتكون العاصمة الوطنية. وبعد مرور عام، استكشف روبرت غراي، بينما يبحر في السفينة “كولومبيا”، المحيط الهادئ الشمالي الغربي، وقام بتعميد نهر كولومبيا، وسمى المنطقة بأكملها كولومبيا (التي ما تزال موجودة شمال الحدود اليوم باسم كولومبيا البريطانية). وفي العام 1798، كتب جوزيف هوبكنسون النشيد الوطني الأصلي، “حيّوا كولومبيا”.
تآمر حدثان لضمان أن لا تكون المودة الأميركية تجاه كولومبوس مجرد بدعة عابرة. أولاً، حول الأميركيون الذكرى المئوية الثالثة لكولومبوس في العام 1492 إلى احتفال ضخم. وشرعت التماثيل والنصب التذكارية لكولومبوس في الظهور في جميع أنحاء البلاد. وأقامت كل من نيويورك وبوسطن وفيلادلفيا عروضاً جماعية بقيادة ممثلين يرتدون أزياء يتقمصون بها كولومبيا وكريستوفر كولومبوس. مَن سيكون أفضل منه لقيادة أول فرصة للأمة لتحتفل بتاريخ غير مرتبط ببريطانيا والذي لم يسبق وأن حدث في الذاكرة الحية؟
بدلاً من أن تخفُت وتتلاشى، تكثفت أسطورة كولومبوس فحسب. على سبيل المثال، كان الراوية في قصيدة جويل بارلو الملحمية (وغير القابلة للقراءة تقريبًا) “الكولومبيادة” (1807) ملاكاً. وبالحكم من شعبية القصيدة، كان القليلون في ذلك الوقت يعتقدون أن إسناد صفة الإلهام الإلهي لكولومبوس (يعني: أميركا) كان مبالغاً فيه.
كانت نقطة التحول الرئيسية الثانية في إدخال كولومبوس في نسيج الهوية الأميركية هي قيام مجلة “واشنطن إيرفينغ” في العام 1828 بنشر كتاب “حياة ورحلات كريستوفر كولومبوس”. وقد زُعم أن هذا الكتاب غير الدقيق إلى حد مذهل هو تاريخ ونسخة منقحة من قصة كولومبوس الذي “أبحر في المحيط الأزرق في 000 وأربعمائة واثنين وتسعين”، والتي تم تدريسها لأجيال من الأطفال الأميركيين. وكان مثال صناعة الخرافات الذي وضعته إيرفينغ تشويهاً لدافع كولومبوس لرحلة 1492. فقد درس كولومبوس الحقيقي خرائط البحارة البرتغاليين، وخلص إلى أن جنوب شرق آسيا يقع وراء حدود الخريطة مباشرةً، وانطلق في رحلته لإثبات ذلك. وأبحر كولومبوس مجلة إيرفنغ ليثبت أن العالم مستدير، ويسخر بذلك من النخبة الأوروبية التي أصرت على أنها مسطحة. وفي جميع أنحاء الكتاب، كان كولومبوس باسلاً مقداماً، تواقاً إلى التخلص من أوروبا القديمة -وليس من قبيل الصدفة أن تكون هذه، بالضبط، الصفات نفسها التي رأتها الولايات المتحدة في نفسها.
ولكن، حتى لو قورنت بأواخر القرن الثامن عشر، فلا شيء يمكن أن يضاهي “حمى كولومبوس” التي جرى توثيقها في 1892-1893 حين احتفلت البلاد بالذكرى السنوية الـ400 لرحلته بـ”مهرجان شيكاغو العالمي”، و”معرض كولومبوس”. لم يكن هناك نصب تذكاري بمثل تلك العظمة، ولا خطاب مفرط في التزييف والتمجيد والتذلل، ولا عرض واضح لرغبة الأمة في تأكيد نفسها يمكن أن يكون أوضح في أميركا 1893. كان برنامج فرانسيس بيلامي للمدارس، إذا كان ثمة شيء، محدداً بمعايير ذلك العام.
في نهاية المطاف، فعل الزمن فعله في هذا الكولومبوس البطل ونحته. بقيت خرافات إيرفينغ للعام 1828 حاضرة في كتب التاريخ، والتقاليد الشفوية، والمناهج المدرسية طوال القرن العشرين. لكن الأسطورة بدأت تتقاسم الحيز مع اعتراف متزايد، وإن كان ما يزال غير كاف، بالفظائع التي ارتكبها كولومبوس في حق سكان الأميركتين خلال ما يسمى “عصر الاستكشاف”. وتم تخفيض وصف وصوله إلى القارة الأميركية في العام 1492 (بشكل مناسب) من “اكتشاف” إلى توصيفات “لقاء” أو “تبادل” الأكثر واقعية، واعترف الأميركيون ببطء بأن كلمة “اكتشاف” هي وصف سيئ لعمل رجل هبط على سواحل جزيرة يقطنها أشخاص آخرون مسبقاً.
والأهم من ذلك، أنه مع ازدياد عدد الأميركيين (قليلاً) من أولئك الأكثر ارتياحاً مع مواجهة الجوانب الأكثر قتامة من التاريخ، ارتفع صوت النقاش حول استرقاق كولومبوس للسكان الذين قابلهم، وقتله إياهم من دون محاكمة، وتجريدهم من ممتلكاتهم، إلى ما فوق الهمس لأول مرة خلال الذكرى السنوية الـ500 المقنّنة كثيراً في العام 1992. وأكد المؤرخون والنقاد الثقافيون بطريقة مقنعة أن التمجيد لا يليق بالرجل الذي كتب، “دعونا باسم الثالوث المقدس نواصل إرسال جميع العبيد الذين يمكن بيعهم”، بينما قام بجمع 1.500 من سكان أراواك في صغرى جزر الأنتيل لبيعهم في إسبانيا. وقام بارتولوم دي لاس كاساس، في روايته الصادرة في العام 1561 والمستندة إلى روايات من طاقم كولومبوس، بوصف كولومبوس كرجل كان القتل العمد نشاطه الترفيهي. ومرة أخرى، كان كولومبوس نائباً، هذه المرة عن أميركا تبذل جهداً أخرقَ ومتأخراً جداً للتصدي لجزء مخجل من التاريخ.
اعتمد المستعمرون الأميركيون كولومبوس كرمز ثقافي بسبب الحاجة العملية إلى بناء هوية تاريخية وطنية تستبعد بريطانيا. وكان الاحتفال بكولومبوس، في جزء كبير من التاريخ الأميركي، بمثابة تمرين في إبراز الفضائل التي نود أن نراها في أنفسنا وفي بلدنا.
واليوم، في أميركا تتعلم قبول أسطورة كولومبوس كسيرة ذاتية، أصبح استخدام كولومبوس كمجاز وطني يبدو ساذجاً وعتيق الطراز. ولا يستطيع سوى الجهل المتعمد بالسجل التاريخي أن يحتفظ به اليوم كرحالة مستنير اكتشف وجلب البركات إلى أرض مجهولة.
لكن صدى كولومبوس الحقيقي -وليس الأسطوري الذي جرى تخليقه- يجب أن يتردد في أميركا المعاصرة. لقد انطلق كولومبوس في رحلته ليعثر على آسيا، وهبط في منطقة الكاريبي، وأصر حتى وفاته، في مواجهة مواجهة أدلة دامغة، على أنها كانت آسيا حقاً. وبدلاً من الاحتفال بما أنجزه فعلاً، والاعتراف بأن الحظ كانت له يد في نجاحه، أو إدراك الفظائع والأهوال التي تسبب فيها، دافع عن نفسه بطريقة لا يخالطها اعتذار أو ندم وألقى باللوم عن أي إشارة إلى الفشل أو عدم الكفاءة على الآخرين. وقد أنقذ أميركيو القرن الثامن عشر كولومبوس -الذي كان غامضاً آنذاك- من تاريخ الغزو الإمبريالي الأوروبي لأسباب سياسية فريدة مقتصرة على شروط تلك الحقبة. ولم يكن بوسعهم أن يعرفوا كم سيكون كولومبوس الحقيقي حكاية تحذيرة للولايات المتحدة في العام 2017. *أستاذ مساعد بجامعة برادلي. وهو يقيم في شيكاغو، ويكتب في السياسة في مدونة “جين وتاكوس”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Invention of Christopher Columbus, American Hero ترجمة: علاء الدين أبو زينة إدوارد بورميلا* – (ذا نيشن) 10/9/2017 ala.zeineh@alghad.jo
مدار الساعة ـ نشر في 2019/12/16 الساعة 06:57