حذيفه المشاقبة يكتب: موت الأيديولوجيا في ظل سيادة المنهجية العلمية
مدار الساعة ـ نشر في 2019/12/01 الساعة 01:11
د حذيفه المشاقبة
"إذا كان الناس في علاقاتهم يبدون في الإيديولوجيا، مقلوبين على رؤوسهم كما لو كانوا في الغرفة السوداء لآلة التصوير، فإن هذه الظاهرة تتولد عن مجرى حياتهم التاريخية" هكذا بدأ جرامشي إحدى رسائله من السجن وهو يدافع عن الأيديولوجيا وعن كونها وعيا مزيفا لدى كارل ماركس وكما حاول أيضا سولتير وفوكو الدفاع عن حتمية الايديلوجيا وكان أكثرهم تصلبا بالدفاع عنها باضفاء البعد المعرفي للايدلوجيا كان التوسير بحديثه عن الانقطاع المعرفي لدى ماركس.!!؟ كما عالج لوكاتش أيضا الأيديولوجيا باعتبارها تزييفا للوعي في مقاله الشهير "وعي البروليتاريا" في كتابه "التاريخ و الوعي الطبقي". فالبروليتاريا عنده معرضة للانخداع بالقيم و المثل البورجوازية و أنساقها الفكرية و الاقتصادية تماما مثل البورجوازية نفسها، و هذا الانخداع يسميه بالوعي الزائف كل ما سبق يقودنا إلى حقيقة الوضع القائم للايدلوجيا بعد الانطلاق من كينونيتها من جورج دي تراسي إلى سيرورتها إلى بدايه الصيرورة وموتها حيث كتب قبل عقود المفكر الأميركي دانيال بيل الكتاب الشهير " موت الايديولوجيا" ومن هنا بدأ الحديث فعلا عن أفول الأيديولوجيا وخصوصا لما رافقه من أحداث في انهيار السرديات الكبرى التي تمثل جوهر الأيديولوجيا حيث شهدت سبعينات القرن الماضي بداية الحديث عن نهاية السرديات الكبرى، وتشمل الأسئلة الكبرى المتعلقة بالعقلانية والتنوير والحرية وهي المفاهيم المركزية التي قامت عليها كل الحضارة الغربية لمدّة أربعة قرون حيث قادت المآزق والأزمات التي عاشها العالم مع انتشار النظم الدكتاتورية والأحزاب الشمولية إلى القيام بمراجعات كبرى باتجاه تفكيك كل تلك السرديّات وخلخلة الأسس الفلسفية التي قامت عليها دفع هذا الانهيار إلى التحول نحو السرديات الصغرى المتمحورة حول الاهتمام بالذات ورعايتها وتأمين جودة الحياة للأفراد، وهي تتلخص في منظومة حقوق الإنسان بأجيالها المتعددة، وأنساقها الكثيرة حول الحريات الأساسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وكان المفكر الأميركي فرانسيس فوكاياما قد نظّر في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” إلى نهاية هذه السرديات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار التجربة الشيوعية في أقطار المعسكر الشرقي سابقا مع نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ومع سقوط جدار برلين وتوحد ألمانيا وانهيار المنظومة الاشتراكية وانخراط الإنسانية في العولمة، وقد تغافلت عن إحدى أبرز سمات الأيديولوجيا، وهي الديناميكية، وهو ما يجعل الحكم المطلق نبوءة حالمة في أحسن الأحوال وليس واقعا حقيقيا. التغيرات الكبرى للشعوب ينبغي أن تقود الدول للأمام والرفاه. فثورة الشعب الألماني وإسقاط سور برلين حققا توحيد ألمانيا، بل وتوحيد أوروبا شرقها وغربها، واتساع الاتحاد الأوروبي ليضم دول شرق أوروبا الفقيرة في كيان واحد مع دول أوروبا الغربية الغنية. وهذا ما كان ليحدث لولا إسقاط الألمان لجدار برلين. تلك الثورة حدثت بهدوء نسبي وتبعها عمل وجهد وعرق بعيدا عن الضجيج ودون دماء وحققت تغيرا سريعا نخو الأفضل. وقد ارتبطت بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الأيديولوجيا الشيوعية. وانعكست في ارتفاع دخل الفرد في أوروبا الشرقية إلى أكثر من عشرين ضعفا وحققت نموا اقتصاديا كبيرا في أوروبا الغربية. تلك كانت ثورة شبيهة بثورة إيران الأولى قبل أن ينقلب عليها المؤدلجون أصحاب العمائم الذين أدخلوا البلاد في ما نشاهده اليوم بسبب تغول الأيديولوجيا وصراعها مع جيل لم يعرف لها أي ميزة أو منفعة ومع ظهور الثورة التكنولوجية والتي سارعت إلى تشيع الإيديولوجيات الي مثواها الأخير حيث شكلت وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة منصات للمراقبة المستمرة على كافة فئات الشعب وكل أشكال السلطات ودعمت مشاركة متزايدة للمواطنين في التعبير عن حاجياتهم وأوضاعهم. تلاقت هذه التطورات التكنولوجية مع تردي أوضاع فئات اجتماعية كثيرة، وبروز تفاوت طبقي رهيب، وهو ما دفع الكثير من الناس في شتى بلدان العالم إلى التعبير عن سخطهم واحتجاجهم على استشراء الفقر والخصاصة عبر هذه الوسائل، أثرت هذه العوامل مجتمعة في تغير ملامح المشهد السياسي في الغرب عموما؛ حيث تقلصت شعبية الأحزاب التقليدية الكبرى في أوروبا وبدأت في التآكل التدريجي بينما صعدت أحزاب وحركات وقوائم حديثة التشكل لم تنضج هياكلها ولم تعرف هويتها. الأجيال الجديدة تقود مرحلة التغيير بأدواتها ورؤيتها للحياة، ضمن رؤية لا تكترث للأطروحات الكبرى لكونها لا تحقق الرغبات ولا تعبر عن الذات وعبرت الانتخابات في عدد من الدول الغربية عن هذا التوجه حيث تمت الإطاحة بالأحزاب الأيديولوجية التقليدية. وصعد أكثر من اسم “مغمور” لا ينتمي إلى أي من التيارات التقليدية المهيمنة، هنا تشكل إيطاليا بصفة دقيقة التعبير الأمثل عن هذه التحولات الجارفة، فأحزابها التقليدية تدهورت لصالح قوى كانت محسوبة على الهامش السياسي. فحزب “رابطة الشمال” بقيادة السياسي المغمور ماتيو سالفيني و”حركة الخمس نجوم” التي لم تكن حزبا سياسيا، تحولا إلى القوة الأولى في البلاد بعد هزمهما للأحزاب الرئيسية مثل “الحزب الديمقراطي” (يسار الوسط) وحزب “فوزا إيطاليا” اليميني الذي يقوده السياسي المخضرم سلفيو برلسكوني. وتعبر الحالة البريطانية عن المدى الذي بلغته هذه التحولات، فقد فشل الحزبان التقليديان (العمال والمحافظين) في السباق إلى تمثيل بريطانيا في البرلمان الأوروبي فيما تقدم اليمين الشعبوي بمعدلات قياسية من خلال قائمة حديثة التشكل أزاحت تشكيلات حزبية ناضجة من طريقها. وتشمل السيولة السياسية شواهد متعددة، من ذلك حالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والبرازيلي جايير بولسونارو والفلبيني رودريغو دوتيرتي وغيرهم الكثير. ويعد هؤلاء الزعماء الشعبويين شعوبهم بتغيير مسار النظام القائم والاستجابة لمطالبهم الحياتية مستغلين امتيازات العصر الشبكي وما يتيحه من إمكانية مشاركة كبرى لعموم أفراده، وخاصة الأجيال الشابة التي انخرطت بسرعة وكثافة به. قادت الأجيال الشابة مرحلة التغيير هذه بأدواتها الخاصة ورؤيتها للحياة المختلفة عن سابقاتها ضمن رؤية لا تكترث للصلابة والأطروحات الكبرى لكونها لا تحقق الرغبات ولا تعبر عن الذات.. امتدت تأثيرات الأجيال الجديدة إلى العالم العربي، رغم حداثة الديمقراطية فيه، فقد كشفت الانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة أفول الأيديولوجيا في جزئيتها العربية في المنظور الشامل لموت الايديولوجيا، حيث بلغ الدور الثاني من الانتخابات مرشحان عابران للتصنيفات الأيديولوجية التقليدية وهما قيس سعيّد ونبيل القروي، واختم بالسؤال الكبير ألم يحن الوقت حقا على أن يعلن اليمين واليسار هزيمتهما في الوطن العربي ككل، بعد أن هزم في مركز التصدير ومعقله في أوروبا؟ ألم يأتي الوقت ان نبدأ مشروعا حداثيا برامجي تكون ايديلوجيته الحقيقية المنهجية العلمية التي تنتقل بنا في براكسيس جديد تخرجنا من الإطار الابستمولجي النظري إلى الإطار العملي الذي يحتاجه الإنسان العربي ويلبي طموحه ؟
"إذا كان الناس في علاقاتهم يبدون في الإيديولوجيا، مقلوبين على رؤوسهم كما لو كانوا في الغرفة السوداء لآلة التصوير، فإن هذه الظاهرة تتولد عن مجرى حياتهم التاريخية" هكذا بدأ جرامشي إحدى رسائله من السجن وهو يدافع عن الأيديولوجيا وعن كونها وعيا مزيفا لدى كارل ماركس وكما حاول أيضا سولتير وفوكو الدفاع عن حتمية الايديلوجيا وكان أكثرهم تصلبا بالدفاع عنها باضفاء البعد المعرفي للايدلوجيا كان التوسير بحديثه عن الانقطاع المعرفي لدى ماركس.!!؟ كما عالج لوكاتش أيضا الأيديولوجيا باعتبارها تزييفا للوعي في مقاله الشهير "وعي البروليتاريا" في كتابه "التاريخ و الوعي الطبقي". فالبروليتاريا عنده معرضة للانخداع بالقيم و المثل البورجوازية و أنساقها الفكرية و الاقتصادية تماما مثل البورجوازية نفسها، و هذا الانخداع يسميه بالوعي الزائف كل ما سبق يقودنا إلى حقيقة الوضع القائم للايدلوجيا بعد الانطلاق من كينونيتها من جورج دي تراسي إلى سيرورتها إلى بدايه الصيرورة وموتها حيث كتب قبل عقود المفكر الأميركي دانيال بيل الكتاب الشهير " موت الايديولوجيا" ومن هنا بدأ الحديث فعلا عن أفول الأيديولوجيا وخصوصا لما رافقه من أحداث في انهيار السرديات الكبرى التي تمثل جوهر الأيديولوجيا حيث شهدت سبعينات القرن الماضي بداية الحديث عن نهاية السرديات الكبرى، وتشمل الأسئلة الكبرى المتعلقة بالعقلانية والتنوير والحرية وهي المفاهيم المركزية التي قامت عليها كل الحضارة الغربية لمدّة أربعة قرون حيث قادت المآزق والأزمات التي عاشها العالم مع انتشار النظم الدكتاتورية والأحزاب الشمولية إلى القيام بمراجعات كبرى باتجاه تفكيك كل تلك السرديّات وخلخلة الأسس الفلسفية التي قامت عليها دفع هذا الانهيار إلى التحول نحو السرديات الصغرى المتمحورة حول الاهتمام بالذات ورعايتها وتأمين جودة الحياة للأفراد، وهي تتلخص في منظومة حقوق الإنسان بأجيالها المتعددة، وأنساقها الكثيرة حول الحريات الأساسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وكان المفكر الأميركي فرانسيس فوكاياما قد نظّر في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” إلى نهاية هذه السرديات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار التجربة الشيوعية في أقطار المعسكر الشرقي سابقا مع نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ومع سقوط جدار برلين وتوحد ألمانيا وانهيار المنظومة الاشتراكية وانخراط الإنسانية في العولمة، وقد تغافلت عن إحدى أبرز سمات الأيديولوجيا، وهي الديناميكية، وهو ما يجعل الحكم المطلق نبوءة حالمة في أحسن الأحوال وليس واقعا حقيقيا. التغيرات الكبرى للشعوب ينبغي أن تقود الدول للأمام والرفاه. فثورة الشعب الألماني وإسقاط سور برلين حققا توحيد ألمانيا، بل وتوحيد أوروبا شرقها وغربها، واتساع الاتحاد الأوروبي ليضم دول شرق أوروبا الفقيرة في كيان واحد مع دول أوروبا الغربية الغنية. وهذا ما كان ليحدث لولا إسقاط الألمان لجدار برلين. تلك الثورة حدثت بهدوء نسبي وتبعها عمل وجهد وعرق بعيدا عن الضجيج ودون دماء وحققت تغيرا سريعا نخو الأفضل. وقد ارتبطت بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الأيديولوجيا الشيوعية. وانعكست في ارتفاع دخل الفرد في أوروبا الشرقية إلى أكثر من عشرين ضعفا وحققت نموا اقتصاديا كبيرا في أوروبا الغربية. تلك كانت ثورة شبيهة بثورة إيران الأولى قبل أن ينقلب عليها المؤدلجون أصحاب العمائم الذين أدخلوا البلاد في ما نشاهده اليوم بسبب تغول الأيديولوجيا وصراعها مع جيل لم يعرف لها أي ميزة أو منفعة ومع ظهور الثورة التكنولوجية والتي سارعت إلى تشيع الإيديولوجيات الي مثواها الأخير حيث شكلت وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة منصات للمراقبة المستمرة على كافة فئات الشعب وكل أشكال السلطات ودعمت مشاركة متزايدة للمواطنين في التعبير عن حاجياتهم وأوضاعهم. تلاقت هذه التطورات التكنولوجية مع تردي أوضاع فئات اجتماعية كثيرة، وبروز تفاوت طبقي رهيب، وهو ما دفع الكثير من الناس في شتى بلدان العالم إلى التعبير عن سخطهم واحتجاجهم على استشراء الفقر والخصاصة عبر هذه الوسائل، أثرت هذه العوامل مجتمعة في تغير ملامح المشهد السياسي في الغرب عموما؛ حيث تقلصت شعبية الأحزاب التقليدية الكبرى في أوروبا وبدأت في التآكل التدريجي بينما صعدت أحزاب وحركات وقوائم حديثة التشكل لم تنضج هياكلها ولم تعرف هويتها. الأجيال الجديدة تقود مرحلة التغيير بأدواتها ورؤيتها للحياة، ضمن رؤية لا تكترث للأطروحات الكبرى لكونها لا تحقق الرغبات ولا تعبر عن الذات وعبرت الانتخابات في عدد من الدول الغربية عن هذا التوجه حيث تمت الإطاحة بالأحزاب الأيديولوجية التقليدية. وصعد أكثر من اسم “مغمور” لا ينتمي إلى أي من التيارات التقليدية المهيمنة، هنا تشكل إيطاليا بصفة دقيقة التعبير الأمثل عن هذه التحولات الجارفة، فأحزابها التقليدية تدهورت لصالح قوى كانت محسوبة على الهامش السياسي. فحزب “رابطة الشمال” بقيادة السياسي المغمور ماتيو سالفيني و”حركة الخمس نجوم” التي لم تكن حزبا سياسيا، تحولا إلى القوة الأولى في البلاد بعد هزمهما للأحزاب الرئيسية مثل “الحزب الديمقراطي” (يسار الوسط) وحزب “فوزا إيطاليا” اليميني الذي يقوده السياسي المخضرم سلفيو برلسكوني. وتعبر الحالة البريطانية عن المدى الذي بلغته هذه التحولات، فقد فشل الحزبان التقليديان (العمال والمحافظين) في السباق إلى تمثيل بريطانيا في البرلمان الأوروبي فيما تقدم اليمين الشعبوي بمعدلات قياسية من خلال قائمة حديثة التشكل أزاحت تشكيلات حزبية ناضجة من طريقها. وتشمل السيولة السياسية شواهد متعددة، من ذلك حالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والبرازيلي جايير بولسونارو والفلبيني رودريغو دوتيرتي وغيرهم الكثير. ويعد هؤلاء الزعماء الشعبويين شعوبهم بتغيير مسار النظام القائم والاستجابة لمطالبهم الحياتية مستغلين امتيازات العصر الشبكي وما يتيحه من إمكانية مشاركة كبرى لعموم أفراده، وخاصة الأجيال الشابة التي انخرطت بسرعة وكثافة به. قادت الأجيال الشابة مرحلة التغيير هذه بأدواتها الخاصة ورؤيتها للحياة المختلفة عن سابقاتها ضمن رؤية لا تكترث للصلابة والأطروحات الكبرى لكونها لا تحقق الرغبات ولا تعبر عن الذات.. امتدت تأثيرات الأجيال الجديدة إلى العالم العربي، رغم حداثة الديمقراطية فيه، فقد كشفت الانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة أفول الأيديولوجيا في جزئيتها العربية في المنظور الشامل لموت الايديولوجيا، حيث بلغ الدور الثاني من الانتخابات مرشحان عابران للتصنيفات الأيديولوجية التقليدية وهما قيس سعيّد ونبيل القروي، واختم بالسؤال الكبير ألم يحن الوقت حقا على أن يعلن اليمين واليسار هزيمتهما في الوطن العربي ككل، بعد أن هزم في مركز التصدير ومعقله في أوروبا؟ ألم يأتي الوقت ان نبدأ مشروعا حداثيا برامجي تكون ايديلوجيته الحقيقية المنهجية العلمية التي تنتقل بنا في براكسيس جديد تخرجنا من الإطار الابستمولجي النظري إلى الإطار العملي الذي يحتاجه الإنسان العربي ويلبي طموحه ؟
مدار الساعة ـ نشر في 2019/12/01 الساعة 01:11