«صناعة الرؤساء» في الجزائر
مدار الساعة ـ نشر في 2019/11/28 الساعة 18:38
الجزائر على موعد مع انتخابات رئاسية يوم 12 ديسمبر المقبل، والحراك الشعبي ما زال على عهده منذ تسعة شهر رافضا للمسار السياسي الذي فرضته السلطة. السؤال المُلّح هنا: هل تطوي الانتخابات صفحة الاحتجاجات المندلعة منذ فبراير والتي أطاحت بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وغيرت قواعد الحكم، أم أن الانتخابات التي تجري "رغم أنف" المعارضة الشعبية ستأجج الصراعات، وتفتح الأبواب لسيناريوهات مجهولة؟
اللافت أن الانتخابات الرئاسية لا تحظى باهتمام شعبي ملموس، وأخبار الاحتجاجات التي مضى عليها 40 أسبوعا تستقطب الاهتمام أكثر، والاعتقالات المتزايدة في صفوف المُحتجين الذين يتصدون لمرشحي الرئاسة خلال مهرجاناتهم الانتخابية تُحدث ضجيجا أكثر من شعارات المعركة الانتخابية.
143 مرشحا تقدموا لدخول سباق الانتخابات بالجزائر، استوفى 23 منهم الشروط، وفقط 5 منهم تم قبولهم للمضي في السباق الانتخابي، وكلهم تُوجه لهم اتهامات من الشارع بأنهم "أبناء السلطة والنظام" مهما رفعوا من شعارات، ومهما وجهوا من انتقادات للعهد السابق، ومهما قدموا من وعود لدعم مطالب الانتفاضة الشعبية.
في الوجدان الشعبي الجزائري تكرست قناعات أن الانتخابات الرئاسية ليست أكثر من مسرحية، وأن من يخوضونها ليسوا أكثر من "دمى" تحركهم السلطة الفعلية، وأن نتائج الانتخابات يُقررها الجيش والقوى المتحالفة معه، وليس صناديق الاقتراع.
الحراك ليس قوة واحدة منظمة ولم يفرز مرشحا للانتخابات
ربما كان هناك ما يبرر هذه القناعات في العقود الماضية، وخاصة بعد "العشرية الدامية" في بداية التسعينيات، وبعد أن طغى "زواج" المال والسياسية ونخر عظم الدولة ومفاصلها، وبعد أن أصبح حزب الثورة والاستقلال "حزب جبهة التحرير الوطني" حصان طروادة الذي يُستخدم للوصول للسلطة. ولكن هل مازالت الصورة كما كانت بعد أن اسقطت انتفاضة الجزائريين العهدة الخامسة للرئيس السابق بوتفليقة، وكانت السبب في زج العديد من أبرز السياسيين ورجال الأعمال في السجن؟ يدرك قادة الاحتجاج الشعبي أن ثمة تغييرا قد حدث بعد انتفاضتهم، وأن ما يسمونهم "عصابة" السلطة قد سقطوا، غير أنهم يعرفون أن الانتخابات الرئاسية لن تُحدث التغيير المطلوب، وإنما ستُعيد إنتاج السلطة القديمة بوجوه جديدة، وشعارات جديدة، وسيظل الحاكم الفعلي هو الجيش؛ ولهذا ما زالوا يُصرون على رفض خارطة الطريق التي تريد السلطة تطبيقها، ويعتبرون أن الانتخابات لن تكون مُنصفة، ويرفعون شعارات "لا للانتخابات.. لا للعصابات"، في حين يرى الجيش أن الانتخابات الرئاسية هي السبيل الوحيد لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها. رحل الرئيس بوتفليقة بعد أن حكم الجزائر 20 عاما، قضى آخر سنوات حكمه على كرسي متحرك بعد أن أصيب بجلطة دماغية عام 2013، وتعذر عليه أن يؤدي اليمين الدستورية بعد فوزه بالانتخابات عام 2014، ولم يعد يُعرف من يحكم الجزائر، هل هو شقيقه الأصغر السعيد بوتفليقة الذي حُكم بالسجن بعد الانتفاضة، أم مدير المخابرات الأسبق، أم قائد الجيش، أم تحالف رجال الأعمال الذي أشيع أنهم يسيطرون على مقاليد الحكم؟ بعد رحيل بوتفليقة، استطاع قائد الجيش القوي أحمد قايد صالح السيطرة على زمام الأمور، والتغلب على خصومه ومنافسيه الذي كانوا يحلمون بوراثة بوتفليقة، واستطاع بمساندة الاحتجاجات أن يحشد تحالفَ الشارع إلى جانبه باعتباره صمام الأمان للانتفاضة، والمُنقذ للجزائر من تكرار "حمّام الدم" الذي عاشته في العشرية الدامية. الجيش الذي يتحكم بمقاليد السلطة الآن وفي العقود الماضية يرى أن الانتخابات هي الخيار الدستوري الوحيد للخروج من الفراغ السياسي، وهي الطريق الوحيد للعودة لشرعية الحكم، وهي بالتأكيد الضمانة لعدم تقويض مصالح المؤسسة العسكرية. المرشحون الذين سيخوضون الانتخابات الرئاسية ـ إن تمت بموعدها ـ هم، رئيس الوزراء الأسبق علي من فليس رئيس حزب الطلائع، وعز الدين ميهوبي وزير الثقافة السابق وأمين عام حزب التجمع الديمقراطي بالنيابة، وعبد القادر بن قرينة رئيس حزب حركة البناء، وعبد المجيد تبون رئيس حكومة سابق، وعبد العزيز بلعيد مؤسس حزب المستقبل. الانتخابات قد تشهد مقاطعة وقد يؤدي ذلك إلى إلغائها والذهاب لفترة انتقالية للتوافق على مسار جديد
لم يتفق الحراك الشعبي المتواجد في الشارع منذ تسعة شهور، ولم يقدم مرشحا للانتخابات الرئاسية، وذهب إلى الدعوة لمقاطعة الانتخابات؛ لأنها لن تُعبر عن إرادة الناخبين، وتسهم في تزويرها، ولا يتردد حميد زنار ـ كاتب جزائري ـ من وصف الانتخابات بـ "المسرحية السمجة على الهواء الطلق" في جريدة العرب التي تصدر في لندن. ويُكمل قوله "يكفي ذكر أسماء المرشحين الخمس لتظهر حقيقة تلك اللعبة التي أصبحت مكشوفة؛ بل تُثير الشفقة وتؤجج الغضب، إذ يعرف كل الناس أنه مهما كانت النتيجة فالرئيس المُنصّب سيكون رئيسا مختار من "العصابة"، فضلا عن أن خمستهم ـ أي المرشحين ـ كانوا دائما جزءا من النظام ومن أبنائه الأوفياء"، ويتابع حديثه "كيف يمكن تنظيم انتخابات رئاسية بالقوة، ورغم أنف الشعب الذي يرفضها تماما؟". الأصوات التي تقود الاحتجاجات كانت تريد فترة انتقالية كافية قبيل إجراء الانتخابات، وتعتقد أن الانتخابات لا تمتع بالنزاهة والشفافية والفرص المتكافئة للمرشحين، وأيضا فإن سرعة الدعوة للانتخابات لم تُمكن "الحراكيين" من تنظيم أنفسهم لفرز ممثليهم لخوضها، وهي ترى أن الانتخابات في هذه الظروف ليست أكثر من مسار للاستيعاب السياسي والاحتواء، وليس لإحداث تغيير جذري. لم تسقط قطرة دم واحدة منذ اندلاع الحراك الشعبي في شهر فبراير، وهذا يسجل للجيش، لكن الجزائر لم تخرج من دوامة الأزمة، ولا تُظهر المؤشرات أن الانتخابات الرئاسية ستنقذها، ويُراهن محتجون على أن قيادة الجيش قد تتراجع في اللحظة الأخيرة عن إجراء الانتخابات إذا شعرت أن المقاطعة الشعبية ستكون كبيرة وشاملة وستفضح قدرتها وتأثيرها في الشارع، وهو ما يؤيده عبد الله جاب رئيس حزب العدالة والتنمية، الذي يعتقد أن الانتخابات ستشهد مقاطعة شاملة وهو ما قد يؤدي إلى إلغاء الانتخابات، والذهاب إلى فترة انتقالية للتوافق على مسار جديد. توجيه الاتهامات للجيش باعتباره من يحكم قد يُريح المعارضة؛ ولكن لا يعفيها من مسؤولية تدوير الأزمة، وعدم استثمار فرصة الاحتجاج لفرض مطالبهم على أرض الواقع. الصورة من الداخل تبدو أكثر وضوحا، فأكثر "الحراكيين" يعترفون أن الحراك ليس قوة واحدة منظمة، وربما يكون حراكات متعددة ومتنوعة، ويدركون أن هناك من يسعون لاستغلال الحراك وامتطاء أكتافهم، ويعلمون أن السلطة القائمة بامتدادتها أكثر قوة وتنظيما منهم مهما كان الشارع ملتف حولهم. لم يُفرز الحراك مرشحا، أو مرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية، ليس لأن الظروف والمواقيت غير مناسبة فقط؛ وإنما خوفا من استغلال الأحزاب لهذه الحراكات الاحتجاجية وتطويعها لخدمة أجندتهم. الحراك مستمر وثابت ويقدم نموذجا لحركة سلمية لم يعرف العالم مثلها، ولكن هناك من يصف قادته بـ "التطهر"، والمراهقة والمثالية السياسية، ويعيدون إلى الأذهان شعار الاحتجاج "ارحلوا جميعا" في إشارة لكل قيادات العمل الوطني السابقين، معتبرين أن هذا الشعار كان ظالما لأنه شيطن جميع رموز النضال الوطني، وهو ما استثمر لترك الحراك دون زعامة وقيادة. كثيرة هي إنجازات الحراك الشعبي في الجزائر منذ شهر فبراير، فقد أطاح بالرئيس بوتفليقة الذي حكم بظله لسنوات، وأجبر السلطة على التحقيق بجرائم فساد، وزج ببعض رجال السلطة والمال والأمن في السجون، والأهم أنه كسر حاجز الخوف من سنوات "العشرية الدامية" التي أشعلت حربا وأسالت دما، ودمرت البلاد. لم تسقط قطرة دم واحدة منذ اندلاع الحراك الشعبي وهذا يُسجل للجيش
الجزائر على مفترق طرق، والمستقبل السياسي ليس واضح الملامح، والمكاسرة بين الشارع الذي يطالب بتغيير حقيقي يتعدى الوجوه، والجيش الذي يحكم ويريد الإسراع في شرعنة السلطة عبر صناديق الاقتراع، لا يُعرف إلى أين سينتهي. سيطرة الجيش وحكمه أمر ليس مختلفا عليه في الجزائر، وحتى في الدوائر الدولية التي تراقب ما يجري داخلها، ويعرفون أن الجيش كان يصنع الرؤساء عبر حزبه الثوري ـ جبهة التحرير الوطني ـ أو في الخلطة السحرية اللاحقة لتزاوج السياسيين مع رجال المال، ونفوذ "منتدى رؤساء المؤسسات" وهو أكبر تجمع لرجال الأعمال في السلطة. مجلة موند فريك الفرنسية تختصر في تعليق بسيط المشهد "الجزائر دولة تملك جيشا أم جيش يملك دولة"، مُفارقة مؤلمة رغم تأكيد قادة الجيش في تصريحات لهم "أن زمن صناعة الرؤساء قد ولى". الجزائر أكبر دولة عربية، ومن أكثرها تمتعا بالثروات تواجه أزمة بنيوية مستعصية، والتغني بالأطلال وتذكر شعارات "بلد المليون شهيد"، وحزب جبهة التحرير الوطني الذي ألهم الذاكرة الوطنية، لم يعد يُجدي بعد أن رُفعت شعارات بحل حزب جبهة التحرير الوطني، وإحالته للمتحف باعتباره إرثا وملكا للجزائريين.(الحرة)
ربما كان هناك ما يبرر هذه القناعات في العقود الماضية، وخاصة بعد "العشرية الدامية" في بداية التسعينيات، وبعد أن طغى "زواج" المال والسياسية ونخر عظم الدولة ومفاصلها، وبعد أن أصبح حزب الثورة والاستقلال "حزب جبهة التحرير الوطني" حصان طروادة الذي يُستخدم للوصول للسلطة. ولكن هل مازالت الصورة كما كانت بعد أن اسقطت انتفاضة الجزائريين العهدة الخامسة للرئيس السابق بوتفليقة، وكانت السبب في زج العديد من أبرز السياسيين ورجال الأعمال في السجن؟ يدرك قادة الاحتجاج الشعبي أن ثمة تغييرا قد حدث بعد انتفاضتهم، وأن ما يسمونهم "عصابة" السلطة قد سقطوا، غير أنهم يعرفون أن الانتخابات الرئاسية لن تُحدث التغيير المطلوب، وإنما ستُعيد إنتاج السلطة القديمة بوجوه جديدة، وشعارات جديدة، وسيظل الحاكم الفعلي هو الجيش؛ ولهذا ما زالوا يُصرون على رفض خارطة الطريق التي تريد السلطة تطبيقها، ويعتبرون أن الانتخابات لن تكون مُنصفة، ويرفعون شعارات "لا للانتخابات.. لا للعصابات"، في حين يرى الجيش أن الانتخابات الرئاسية هي السبيل الوحيد لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها. رحل الرئيس بوتفليقة بعد أن حكم الجزائر 20 عاما، قضى آخر سنوات حكمه على كرسي متحرك بعد أن أصيب بجلطة دماغية عام 2013، وتعذر عليه أن يؤدي اليمين الدستورية بعد فوزه بالانتخابات عام 2014، ولم يعد يُعرف من يحكم الجزائر، هل هو شقيقه الأصغر السعيد بوتفليقة الذي حُكم بالسجن بعد الانتفاضة، أم مدير المخابرات الأسبق، أم قائد الجيش، أم تحالف رجال الأعمال الذي أشيع أنهم يسيطرون على مقاليد الحكم؟ بعد رحيل بوتفليقة، استطاع قائد الجيش القوي أحمد قايد صالح السيطرة على زمام الأمور، والتغلب على خصومه ومنافسيه الذي كانوا يحلمون بوراثة بوتفليقة، واستطاع بمساندة الاحتجاجات أن يحشد تحالفَ الشارع إلى جانبه باعتباره صمام الأمان للانتفاضة، والمُنقذ للجزائر من تكرار "حمّام الدم" الذي عاشته في العشرية الدامية. الجيش الذي يتحكم بمقاليد السلطة الآن وفي العقود الماضية يرى أن الانتخابات هي الخيار الدستوري الوحيد للخروج من الفراغ السياسي، وهي الطريق الوحيد للعودة لشرعية الحكم، وهي بالتأكيد الضمانة لعدم تقويض مصالح المؤسسة العسكرية. المرشحون الذين سيخوضون الانتخابات الرئاسية ـ إن تمت بموعدها ـ هم، رئيس الوزراء الأسبق علي من فليس رئيس حزب الطلائع، وعز الدين ميهوبي وزير الثقافة السابق وأمين عام حزب التجمع الديمقراطي بالنيابة، وعبد القادر بن قرينة رئيس حزب حركة البناء، وعبد المجيد تبون رئيس حكومة سابق، وعبد العزيز بلعيد مؤسس حزب المستقبل. الانتخابات قد تشهد مقاطعة وقد يؤدي ذلك إلى إلغائها والذهاب لفترة انتقالية للتوافق على مسار جديد
لم يتفق الحراك الشعبي المتواجد في الشارع منذ تسعة شهور، ولم يقدم مرشحا للانتخابات الرئاسية، وذهب إلى الدعوة لمقاطعة الانتخابات؛ لأنها لن تُعبر عن إرادة الناخبين، وتسهم في تزويرها، ولا يتردد حميد زنار ـ كاتب جزائري ـ من وصف الانتخابات بـ "المسرحية السمجة على الهواء الطلق" في جريدة العرب التي تصدر في لندن. ويُكمل قوله "يكفي ذكر أسماء المرشحين الخمس لتظهر حقيقة تلك اللعبة التي أصبحت مكشوفة؛ بل تُثير الشفقة وتؤجج الغضب، إذ يعرف كل الناس أنه مهما كانت النتيجة فالرئيس المُنصّب سيكون رئيسا مختار من "العصابة"، فضلا عن أن خمستهم ـ أي المرشحين ـ كانوا دائما جزءا من النظام ومن أبنائه الأوفياء"، ويتابع حديثه "كيف يمكن تنظيم انتخابات رئاسية بالقوة، ورغم أنف الشعب الذي يرفضها تماما؟". الأصوات التي تقود الاحتجاجات كانت تريد فترة انتقالية كافية قبيل إجراء الانتخابات، وتعتقد أن الانتخابات لا تمتع بالنزاهة والشفافية والفرص المتكافئة للمرشحين، وأيضا فإن سرعة الدعوة للانتخابات لم تُمكن "الحراكيين" من تنظيم أنفسهم لفرز ممثليهم لخوضها، وهي ترى أن الانتخابات في هذه الظروف ليست أكثر من مسار للاستيعاب السياسي والاحتواء، وليس لإحداث تغيير جذري. لم تسقط قطرة دم واحدة منذ اندلاع الحراك الشعبي في شهر فبراير، وهذا يسجل للجيش، لكن الجزائر لم تخرج من دوامة الأزمة، ولا تُظهر المؤشرات أن الانتخابات الرئاسية ستنقذها، ويُراهن محتجون على أن قيادة الجيش قد تتراجع في اللحظة الأخيرة عن إجراء الانتخابات إذا شعرت أن المقاطعة الشعبية ستكون كبيرة وشاملة وستفضح قدرتها وتأثيرها في الشارع، وهو ما يؤيده عبد الله جاب رئيس حزب العدالة والتنمية، الذي يعتقد أن الانتخابات ستشهد مقاطعة شاملة وهو ما قد يؤدي إلى إلغاء الانتخابات، والذهاب إلى فترة انتقالية للتوافق على مسار جديد. توجيه الاتهامات للجيش باعتباره من يحكم قد يُريح المعارضة؛ ولكن لا يعفيها من مسؤولية تدوير الأزمة، وعدم استثمار فرصة الاحتجاج لفرض مطالبهم على أرض الواقع. الصورة من الداخل تبدو أكثر وضوحا، فأكثر "الحراكيين" يعترفون أن الحراك ليس قوة واحدة منظمة، وربما يكون حراكات متعددة ومتنوعة، ويدركون أن هناك من يسعون لاستغلال الحراك وامتطاء أكتافهم، ويعلمون أن السلطة القائمة بامتدادتها أكثر قوة وتنظيما منهم مهما كان الشارع ملتف حولهم. لم يُفرز الحراك مرشحا، أو مرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية، ليس لأن الظروف والمواقيت غير مناسبة فقط؛ وإنما خوفا من استغلال الأحزاب لهذه الحراكات الاحتجاجية وتطويعها لخدمة أجندتهم. الحراك مستمر وثابت ويقدم نموذجا لحركة سلمية لم يعرف العالم مثلها، ولكن هناك من يصف قادته بـ "التطهر"، والمراهقة والمثالية السياسية، ويعيدون إلى الأذهان شعار الاحتجاج "ارحلوا جميعا" في إشارة لكل قيادات العمل الوطني السابقين، معتبرين أن هذا الشعار كان ظالما لأنه شيطن جميع رموز النضال الوطني، وهو ما استثمر لترك الحراك دون زعامة وقيادة. كثيرة هي إنجازات الحراك الشعبي في الجزائر منذ شهر فبراير، فقد أطاح بالرئيس بوتفليقة الذي حكم بظله لسنوات، وأجبر السلطة على التحقيق بجرائم فساد، وزج ببعض رجال السلطة والمال والأمن في السجون، والأهم أنه كسر حاجز الخوف من سنوات "العشرية الدامية" التي أشعلت حربا وأسالت دما، ودمرت البلاد. لم تسقط قطرة دم واحدة منذ اندلاع الحراك الشعبي وهذا يُسجل للجيش
الجزائر على مفترق طرق، والمستقبل السياسي ليس واضح الملامح، والمكاسرة بين الشارع الذي يطالب بتغيير حقيقي يتعدى الوجوه، والجيش الذي يحكم ويريد الإسراع في شرعنة السلطة عبر صناديق الاقتراع، لا يُعرف إلى أين سينتهي. سيطرة الجيش وحكمه أمر ليس مختلفا عليه في الجزائر، وحتى في الدوائر الدولية التي تراقب ما يجري داخلها، ويعرفون أن الجيش كان يصنع الرؤساء عبر حزبه الثوري ـ جبهة التحرير الوطني ـ أو في الخلطة السحرية اللاحقة لتزاوج السياسيين مع رجال المال، ونفوذ "منتدى رؤساء المؤسسات" وهو أكبر تجمع لرجال الأعمال في السلطة. مجلة موند فريك الفرنسية تختصر في تعليق بسيط المشهد "الجزائر دولة تملك جيشا أم جيش يملك دولة"، مُفارقة مؤلمة رغم تأكيد قادة الجيش في تصريحات لهم "أن زمن صناعة الرؤساء قد ولى". الجزائر أكبر دولة عربية، ومن أكثرها تمتعا بالثروات تواجه أزمة بنيوية مستعصية، والتغني بالأطلال وتذكر شعارات "بلد المليون شهيد"، وحزب جبهة التحرير الوطني الذي ألهم الذاكرة الوطنية، لم يعد يُجدي بعد أن رُفعت شعارات بحل حزب جبهة التحرير الوطني، وإحالته للمتحف باعتباره إرثا وملكا للجزائريين.(الحرة)
مدار الساعة ـ نشر في 2019/11/28 الساعة 18:38