آن الأوان لتكون الوظيفة العامة جزءاً من الحل

مدار الساعة ـ نشر في 2016/12/05 الساعة 11:18


د.أشرف قوقزة
ارتبط تطور الوظيفة العامة بتطور الدولة الحديثة، التي زادت واجباتها وتنوعت الخدمات التي تقدمها، خاصة بعد أن تحولت الدولة من دولة حارسة إلى ما يسمى بدولة الرفاه وما ترتب على ذلك من ازدياد في نشاطها ومسؤولياتها، إلا أن الوظيفة العامة المعاصرة تواجه جملة من التحديات في المجتمعات طور الانتقال والتي حالت بينها وبين تحقيق النجاح المطلوب، كالمطالبة بالتكيف مع متطلبات البيئة الدولية المتغيرة ومقتضياتها، وإصلاح الجهاز الإداري وتطويره والعمل على إيجاد الكفاءات والجدارة في هذا الجهاز، فالإدارة فيها ما زالت تعاني من ثقافة مترسخة، إذ أنها بالنسبة للغالبية تمثل مكسب يسعى دوماً ومهما كانت النتائج الحصول عليها بكل الوسائل والطرق، حتى لو كانت بالواسطة والجهوية والتحايل على القانون، وهي بالنسبة لعدد كبير أيضاً مخبأ-من دخل دار أبي سفيان فهو امن- يضمن لهم راتباُ شهرياً دون محاسبة على مردود الأعمال التي يقومون بها، وتشوه مفهوم الجدارة لديها، فالجدارة بالمفهوم الغربي تعني المعارف والمهارات والسلوك بينما في مفهوم دول العالم الثالث تعني الحظوة والمحسوبية وفي هذا السياق تبقى الإدارة مطالبة بإنجاح الإصلاحات الإدارية الشاملة في مجال الوظيفة العامة.
وبالنظر للممارسات الفضلى العالمية في هذا المجال نجد أن التجارب الدولية أثبتت بأن اكتشاف القدرات الكامنة في الموارد البشرية أكثر أهمية من اكتشاف البترول والثروات الطبيعية المختلفة، وان مردود الموارد البشرية أهم وأكثر ديمومة من الموارد الطبيعية، والتي ترتبط بشكل وثيق بالإبعاد الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي تشكل في تفاعلها المناخ الملائم للتطور والتقدم وتعظيم الإنتاج، ولنا في ذلك مثال يحتذي به في التجربة اليابانية الحديثة والتي حققت قفزات عملية كبيرة بعد الحرب الباردة، أصبحت بعدها ثاني دولة اقتصادية متقدمة في العالم، بفضل تعظيمها للوظيفة العامة وترسيخها لمبادئ العدالة والجدارة بشكل عملي بعيداً عن التنظير وعدم الاكتفاء بالنصوص البعيدة كل البعد عن التطبيق الفعلي.
كانت المملكة الأردنية الهاشمية ولا زالت مصدرة لأفضل القيادات الإدارية والكفاءات المهنية التي ساهمت في بناء العديد من الدول وأوصلت بها إلى مصاف الدول المتقدمة، فقد بتنا بحاجة لهذه الكفاءات وعدم هروبها إلى الخارج ليحل محلها أشخاص لا تربطهم بالوظيفة إلا البحث عن المناصب والمكاسب، نعم صحيح لا بد من توفير فرص العمل للأردنيين في تولي الوظائف، لكن ما نقصده هنا ترك الوظائف الإشرافية والقيادية لأصحاب الكفاءات الذين يملكون القدرة على التخطيط والتطوير ووضع الخطط الإستراتيجية للنهوض بالجهاز الإداري الذي يشكل عصب الدولة، وعدم النظر إلى المشاكل الاقتصادية التي نمر بها بمعزل عن المشاكل والعقبات التي تثقل كاهل الإدارة والتي تشكل الجزء الأكبر من المشاكل الاقتصادية للدولة.
ولا شك بأن الموظف العام بوصفه ممثلاً للدولة والقائم على انجاز أوجه نشاطها الهامة هو المسئول عن تحقيق المصلحة العامة ورعاية حقوق المواطنين، ومن ثم لا بد من أن يكون هناك مجموعة من الضوابط والشروط ابتداءً لشغل الوظائف العامة وعلى وجه الخصوص الوظائف الإشرافية والقيادية -نظراً لتعاظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم والتي تفوق مسؤوليات الموظف العادي-، وفقاً لتخطيط مسبق للأهداف المستقبلية المرجوة من الجهاز الإداري لضمان تولي تلك الوظائف من قبل الأشخاص الأكثر كفاءة وقدرة بما ينعكس بشكل مؤكد على هيبة المؤسسات وقوتها وقدرتها على القيام بالواجبات المنوطة بها بأفضل حال، وقدر تعلق الأمر بالتشريعات الأردنية الناظمة للوظيفة العامة نجد أن نظام الخدمة المدنية رقم (82) لعام 2007 وتعديلاته ونظام التعيين على الوظائف القيادية رقم (3) لعام 2013، قد أكد على تلك الشروط والمعايير، إلا أن الخلل الأكبر يكمن في إجراءات تطبيق تلك النصوص والعمل بروح القانون ومدى الالتزام بها خاصة بعد مرحلة التعيين في الوظائف العامة.
ولا شك بأن الوظائف الإشرافية والقيادية في الدولة لها الأهمية البالغة، وهي المرحلة الأهم، نظراً لأهمية الدور القيادي لشاغلي الوظائف العليا في الجهاز المدني الحكومي الأردني والمنوط به قيادة وتوجيه المؤسسة وتوظيف مواردها نحو تجسيد رؤيتها وأداء رسالتها وتحقيق أهدافها وتقديم خدماتها بأفضل مستوى ممكن من الجودة والأثر المجتمعي المنشود، وتتعاظم هذه الأهمية إذا ما كان للمؤسسات العامة دورٌ في الانسجام مع توجهات برامج الإصلاح الشامل وتوفير متطلباته وتعميق أثره المجتمعي ومستوى تقبله لدى قادة الرأي العام وأطياف المجتمع المختلفة، ولكي يتمكن الموظف في الوظائف القيادية من القيام بعمله على أكمل وجه وليكون رافدا من روافد دعم الإصلاح الشامل في المؤسسة التي يقودها، يجب أن يكون هناك ما يضبط نظامها القانوني، بما في ذلك تحديد مركزه القانوني وتحديد حقوقه وواجباته وتفعيل الرقابة على التزام الإدارة بتطبيق معايير الكفاءة والتنافس الشريف وهو تفعيل في الوقت ذاته للمبادئ الدستورية بتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص.
لأجل هذا كله نحن بأمس الحاجة إلى ثورة بيضاء تتبنى نهج إداري جديد قائم على بناء الاستراتيجيات والتخطيط والتطوير واستثمار الموارد البشرية الهائلة المتاحة والكامنة في الأعداد الكبيرة والمتضخمة من الموظفين، وهذا لا يكون إلا من خلال جعل معيار تولي الوظائف بشكل عام والوظائف القيادية بشكل خاص في المؤسسات هو معيار الكفاءة والاستحقاق بعيداً عن التنفيع والمحاصصة والترضية، وإعطاء الأهمية للتعليم المتخصص والعالي والخبرات والمهارات، مع الخضوع لتقييم فعلي واقعي مستمر، وتعزيز روح الانتماء للمؤسسة كسمة هامة يشعر الموظف من خلالها بأنه جزء لا يتجزأ من المؤسسة التي يعمل بها، فهي مصدر فخر واعتزاز له، وتحقيق التوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية، بحيث تكون الأولوية لتحقيق المصلحة العامة دون الإضرار أو الانتقاص من المصلحة الفردية، وترسيخ مفهوم العمل الجماعي والجماعية باتخاذ القرار، وتفعيل رقابة القضاء والإعلام والرأي العام على عمل الإدارة، عندها ستكون الإدارة والوظيفة العامة جزء هام من الحل لا جزءً من المشكلة ذاتها.

مدار الساعة ـ نشر في 2016/12/05 الساعة 11:18