حرية النساء «تابوهات مُحرمة»
فُقأت عينا فاطمة أبو عكليك أمام أطفالها في جريمة وحشية وبشعة في الأردن. للوهلة الأولى قد تعتقد أن المجرم قاتل، أو مُغتصب، أو لص، ولكن من الصعب أن تُصدق للحظة أن الفاعل زوجها الذي عاشت معه سنين عمرها، وأنجبت منه أطفالا شهدوا جريمة بحق أمّهم لن تُمحى من ذاكرتهم طوال العمر.
لم أجرؤ على مشاهدتها وهي تروي ما حدث معها. كلما سمعتها تتوسل له ألا يفقأ عينها الأخرى؛ حتى تستطيع أن ترعى وترى أولادها، وتيقنت أن ما يُسمى زوجها ليس أكثر من وحش يستتر بالآدمية.
لم أتخيل في أفلام "الرعب الهوليوودية" ما هو أكثر وحشية مما وقع مع فاطمة، ولم ينصرف ذهني يوما إلى أن العنف عشعش بيننا، وتوغل في بيوتنا ومجتمعاتنا.
كلما حاولت النساء كسر جدار الصمت عن العنف المُوجه للمرأة خرج "دُعاة الأخلاق" والحفاظ على المجتمع ليردوا أن هذه حالات فردية لا يمكن القياس عليها، وأن مجتمعاتنا آمنة وتحفظ كرامة النساء.
كلما حاولت النساء كسر جدار الصمت خرج "دعاة الأخلاق" ليردوا أن الجرائم فردية
ويْحَكم! أي كرامة للنساء تُحفظ بعد هذه الجريمة الوحشية، وماذا تنتظرون حتى تدركوا أن العنف يدك مداميك هذا الوطن، وخاصة العنف الأسري الموجه للنساء، وتحديدا الزوجات؟!
"طفح الكيل" هذا هو الشعار الرئيسي الذي رفعته المعتصمات والمعتصمين على مسافة ليست بعيدة من مقر رئاسة الوزراء في عمّان احتجاجا على الجريمة التي استهدفت فاطمة، وأشعلت جدلا حول العنف المجتمعي الذي يُهدد النساء في الأردن.
في هذا الاعتصام هتفت النساء "طالعات لأجل عيونك يا فاطمة" التي فقدتها في الجريمة. وفي هذا الاعتصام ارتفعت الأصوات التي تطالب برفض إسقاط الحق الشخصي عن المجرم تحت ضغوط مجتمعية. وفي هذا الاعتصام عبرت النساء عن ضرورة توفير الحماية المجتمعية من كل أشكال العنف ضد النساء.
وفي المقابل، تعالت أصوات تُندد بهذه التظاهرة وتعتبرها موجهة ضد الدين، أو دعوة للتحرر، والإباحية، والانفلات من التقاليد الاجتماعية؛ وحاربتها أصوات باعتبارها دعوة لإسقاط نظام "الأبوة الذكوري"؛ وقللت أصوات من خطر العنف ضد النساء؛ واتهمت قيادات هذه التظاهرة بأنهن يأتمرن بأجندات أجنبية، وتقف وراءهن ـ كـالعادة ـ جهات تمويلية، أي نفس السياق المتكرر بشيطنة مطالب الحركة النسوية.
تعامٍ مطلق عن الحقائق وإنكار لها، فحتى الآن وقعت 20 جريمة قتل ضحاياها النساء منذ بداية عام 2019، وبزيادة 186 في المئة عن العام السابق، وارتكبت 2240 حالة عنف ضد النساء حتى هذا اليوم وفق إحصائيات رسمية.
الإحصائيات المتوفرة في الأردن تكشف النقاب عن أن 71.1 في المئة من النساء المتزوجات تعرضن للعنف من أزواجهن، و13.3 في المئة تعرضن للعنف من إخوتهن، 11.9 في المئة من الآباء.
ووفق المسح السكاني والصحة الأسرية الصادر عن دائرة الإحصاءات العامة في الأردن؛ فإن 25.9 في المئة من الزوجات بين سن 15 ـ 49 تعرضن لعنف جسدي أو جنسي أو عاطفي من قبل أزواجهن، في حين أن 1.4 في المئة من الأزواج الذين أعمارهم بين 15 ـ 59 عاما تعرضوا للعنف من زوجاتهم.
20 جريمة قتل ضحاياها نساء منذ بداية 2019 في الأردن
العنف ضد النساء ليس ظاهرة محصورة في الأردن، وإنما 37 في المئة من النساء في العالم العربي تعرضن لأحد أنواع العنف الجسدي أو الجنسي، 35.4 في المئة من المتزوجات تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي من الزوج، وهذه النسبة تُعتبر أعلى من المعدلات العالمية.
على المدى القريب لا يمكن أن نتصور العالم العربي خاليا من العنف ضد النساء، أو على الأقل يشهد تراجعا لافتا في هذه الجرائم، فحتى هذا اليوم 9 دول عربية فقط أقرت قوانين لمكافحة العنف الأسري، وهذه القوانين في الغالب ليست فعالة، وفيها ثغرات كثيرة، وما تزال تسمح بوقوع جرائم العنف أو إفلات المجرمين من العقاب.
وحتى وقت قريب جدا كانت جُل التشريعات العربية تسمح لمغتصب النساء بتجنب الملاحقة القانونية إذا ما تزوج ضحيته، وحين أقرت أو عدلت دول مثل المغرب ولبنان وتونس والأردن تشريعاتها؛ لتنص على منع إفلات المغتصبين من العقاب حتى ولو عرضوا الزواج بضحاياهم، خرجت الأصوات المنددة والمحذرة من هذه الخطوة التي ترسخ قيم العدالة بدل مكافأة المجرمين.
إذن منظومة التشريعات والقوانين ـ هذا عدا الإرث القيمي وما يسمى "العادات والتقاليد" ـ لا توفر الضمانات الكافية أو الإجراءات الوقائية للحد من جرائم العنف ضد النساء، وخاصة الأسري منها.
في مصر ـ على سبيل المثال ـ تنص المادة (60) في قانون العقوبات على "لا تسري أحكام قانون العقوبات على من ارتكب فعل بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة"، هذا النص القانوني يستخدمه العديد من الأزواج للإفلات من العقاب حين يتهمون بارتكاب جرائم عنف ضد زوجاتهم، كالضرب، مُعللين ذلك بأنه حق شرعي لهم لتقويم سلوك الزوجة.
مجتمعاتنا العربية لا تنظر للمرأة باعتبارها إنسانا مستقلا عن سلطة الرجال
المشكلة الأساسية أن المجتمعات العربية في منظومتها وكيانها لا تنظر إلى المرأة باعتبارها إنسانا مستقلا عن سلطة الرجال، أكان أبا، أو شقيقا، أو زوجا، ولا يزال المجتمع يرهن إرادتهن لسلطة ذكورية، تستمد قوتها من سلطة الدولة والدين، وهم بذلك يملكونها مثل متاعهم، وحياتها ومستقبلها مرهونان بيديهم.
في الأردن، قانون للحماية من العنف، ومع ذلك تتزايد الجرائم ضد النساء. مربط الفرس في الأزمة أن هذا القانون لا يُعرّف العنف الأسري بشكل واضح، ولم يتصدَ لكل أشكال العنف والجرائم التي يمكن أن تُرتكب داخل الأسرة، فهناك أفعال كثيرة قد يرتكبها الأزواج، أو الأشقاء، وحتى الآباء بحق النساء من الصعب إثباتها وتؤدي حال تكرارها إلى جرائم، والشواهد على ذلك لا تُعد ولا تُحصى.
حين استمعت إلى شهادات وقصص مدافعات عن حقوق النساء لما تتعرض له المرأة، تأكدت أن القوانين وحدها رغم ضرورتها لا تكفي لتوفير الحماية ما لم تقترن بخوض المعارك لتغيير المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الطاغية.
هل تعلمون أن المرأة البالغ العاقل إن قررت أن تعيش بمفردها في الأردن فإنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إن اشتكى والدها أو شقيقها، وأبلغ الجهات الأمنية عن تغيبها، فإن عثروا عليها فإن الحاكم الإداري "المحافظ"، إذا لم يستطع التوفيق بينها وبين عائلتها، يضطر لتوقيفها في "دار الإيواء" لحمايتها ـ أي تصبح رهينة حبس إجباري.
في التفاصيل روايات كثيرة عن الضغوط التي تتعرض لها النساء المُعنفات للتسامح أو إسقاط الحق، وهناك انتقادات توجه لإدارة حماية الأسرة التابعة لجهاز الأمن العام، ومطالبات بأن يقتصر دورها على التحقيق، وأن يُترك الأمر بعد ذلك للمدعي العام.
تصمت النساء عن جرائم العنف الأسري وتخاف الشكوى أو طلب الطلاق
لستُ متفائلا أن تتراجع الانتهاكات بحق النساء قريبا، فالمجتمع متسامح مع العنف الموجه ضد المرأة، ويجد له مبررات، وبعضها يعود لقرون مضت، ولا يخجل من استخدامها.
تتحدث الدولة عن الانفتاح في كل شيء، وتشترى الأفكار المستوردة من كل بقاع الأرض، وحين يقترب الأمر من حقوق وحرية المرأة يصبح تابوهات مُحرمة لا يمكن الاقتراب منها أو المساس بها. فحتى هذا التاريخ لم يوقف الزواج المبكر، وحتى اليوم توجد نصوص تمييزية في القوانين ضد النساء، فالأم الأردنية لا تستطيع أن تمنح جنسيتها لأبنائها، والرجل هذا حق مطلق له، والمرأة لا تستطيع أن تسافر بصحبة أبنائها دون موافقة والدهم، والرجل لا يحتاج إذنا من زوجته ـ أم الأولاد ـ وهكذا يستمر تكريس انتقاص حقوق المرأة ومكانتها.
تصمت النساء عن جرائم العنف الأسري، وتتعرض السيدة منهن للذل أحيانا كثيرة، وتخاف أن تذهب للشكوى أو طلب المساعدة، فهي تخشى تكرار الأذى بوتيرة أقسى، وتخشى إيذاء أهلها إن اشتكت؛ لأن ذلك بنظرهم "فضحية اجتماعية"، وتخاف الطلاق حتى لا توصم بذلك، وتتردد في اتخاذ أي موقف حاسم لأنها لا تعرف مصير أبنائها، ولأنها لا تعرف كيف ستعيش وتؤمن لقمة خبزها، وحتى لا تصبح في نهاية المطاف منبوذة اجتماعيا.
نعم "طفح الكيل"، ولذلك طالبت منظمة العفو الدولية السلطات الأردنية "بالكف عن التواطؤ مع نظام وصاية الرجل على المرأة والحد من حريتها الشخصية"، والأمر الجلي أن حماية النساء من العنف لن تتحقق بتوفير دور للإيواء فقط، وإنما بنزاهة السلطة، والعدل في التعامل مع المرأة، وإعطائها كامل حقوق المواطنة غير منقوصة كما تعطيها للرجال.(الحرة)