اخبار الاردن اقتصاديات دوليات جامعات وفيات برلمانيات احزاب وظائف للاردنيين رياضة أسرار و مجالس مقالات مختارة مقالات تبليغات قضائية مناسبات جاهات واعراس مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة كاريكاتير رفوف المكتبات طقس اليوم

الشقيرات يكتب: وتنفّس الصبح

مدار الساعة: وكالة اخبارية مساحتها الكلمة الصادقة
مدار الساعة ـ نشر في 2019/03/20 الساعة 11:56
مدار الساعة,صورة,عمان,

بقلم: حسن محمود الشقيرات

لم يكن أحدٌ يعلمُ سرَّ هذا التصرّف الغريب، وصاحبه لا يستطيع البوح بمكنوناته ، فهذا الصغير يهجر فراشه في حضن أمِّه ، ويتعلَّق بوالده مصرّاً على النوم بجانبه،حتى يد الأم التي لم يكن يغفو إلاّ إذا أحسّ بها تهدهده لم يطلبها في ذلك الليل،فقط، تعلَّق برقبة والده وهو يديم النظر إلى وجهه حتى أسلم للنوم عينيه، وفي الصباح استيقظ قبل الجميع، لا بل أنه استيقظ حتى قبل أن تشتد حلكة الظلام السابقة لبزوغ الفجر،لم يبكِ ولم يأت بحركة، بل بقي في فراشه، ينظر إلى وجه والده كأنما يقرأ الدنيا والحياة والوطن في دفتر هذا الوجه، ثمّ بعد قليل وقتٍ يستيقظُ الوالدان على صوت المؤذِّن ينادي :الله أكبر، الله أكبر. ووجد ذلك الوالد نفسه يردّد ما يقوله المؤذّن، وعند انتهاء النداء حوقل الرجل وهلّل وحمدل، ثم قال : الله أكبر فوق كيد المعتدي وبعد وضوء وصلاة، أسرعت سيدة البيت وأعدَّت لزوجها كوباً من الشاي وأحضرته له وبجانبه قطعة من اللبن (الجميد)، وأطلّ الرجلُ من النافذة فوجد خيوط النور قد بدأت تتسلل لتدحر ظلمة الليل.

ونظر إلى ساعة وضعت على منضدة صغيرة في ركنٍ من الغرفة فوجدها تشير إلى السادسة إلا ربعاً ثم عاد ونظر للخارج فكان الفجر يغزو الليل.

"وتنفّس الصبحُ المبشِّر شرُّه وتعملق القزم الحقير علانية"

وكانت الزوجة تدير مؤشر المذياع فجاء صوت المذيع : قوات العدو تبدأ هجوماً عنيفاً على مواقعنا الأمامية وقواتنا تتصدى لها بكل صمود "فترك الرجل كوب الشاي، ونظر سريعاً إلى زوجته وطفله، فوجد ذلك الطفل لا يزال ينظر إليه، والتقت العيون الست في نظرة اُخْتُزِلت فيها كل الحياة بماضيها ولحظتها وقادمها، وبحركة لا إرادية وتصرّف فطري، ارتدى الرجل ثيابه على عجل وامتشق عزمه ومضاءه وهمّ بالخروج لولا أن استوقفه صوت زوجته: إلى أين؟ فأتى جوابهُ حازماً قاطعاً: إلى الله. ولا أحد يعلم هل كان يقصد هذه الكلمة أم أنها خرجت منه هكذا..دون تفكير. فصمتت لغة الكلام وتحدثت العيون بما في الصدور، والتفت الرجل إلى صغيره ثم احتضنه وقبّله قبلة أودعها كل ما في قلبه من حب لهذا الصغير وعاد لزوجته وطبع على جبينها قبلةً حانية، ونظر نحوها نظرة سريعة ثم قال : استوص بنفسك وبهذا الطفل ولولا أنّ من هو أحب إلى منكما ينادي ما تركتكما ثم انطلق مسرعاً، ولا نعلم نحن ولا غيرنا كيف وصل إلى حيث رأى ما لا يخطر ببال وسمع ما لم يمرّ بخيال، فالجبال قد اشتعلت، وغناء الرصاص يختلط بصوت المدافع وهدير الدبابات يمتزج بتكبير الرجال الرجال، ومن بين الضجيج سمع صوتاً يعرفه تماماً، صوت محمد الزبن يصيح : تقدّموا ولا تخشوا موتاً، فتقدم غير هيّاب ولا مبال، وأمام ناظريه كانت الأرض تحترق .. نعم تحترق.. ولم يكن يرى سوى قذائف طائرة، وتمر أمامه كُتلٌ من الحديد أنّى التفت، ولكن هناك في طرف قصي، كان يشاهد كتل الحديد التي تتحرك ما تلبث أن تتحول إلى كومة من النار، وفجأة يسمع صوتاً يميزه : إنّه صوت راتب البطاينه يقول : "إلى الحياة فالشهداء لا يموتون"، ويمضى يمتطى إحدى الدبابات التي تحمل ثُلّة من إخوانه الذين عاش معهم ردحاً طويلاً من عمره، ولم يكن يشعر بوقت أو زمان أو مكان، فالوقت لا يحسب بالدقائق والثواني ولكنه يحسب بعدد حمم المدافع التي تحرق العدو في جحيم الدنيا قبل أن يصل إلى الجحيم، والمكان لم يعد يحدد بأسماء المواقع وإحداثياتها، ولكن بكمية الدماء التي جبلت ترابه، وعبر جهاز اللاسلكي كان يسمع صوت خضر أبي درويش يحدّد لبطاريات المدافع مواقع العدو، وكانت البطاريات تجيب على ندائه بإطلاق حممها وغضبها على من جاء يريد بهذا الوطن الشرّ والضرّاء حتى سمع صوت أبي درويش يقول : "طوّق العدو موقعي ،اقصفوا موقعي"، وكأنّ هذا النداء قد أصمّ الآذان وأعمى الأعين، ولم تكن هناك إجابة حتى عاد النداء وطلب القصف، فاهتزّت يد المدفعي وانعقد لسان ضابط الموقع في حالة هي الأولى في حياتهما، حالة لم تدم طويلاً إذ أصدر الضابط أمره بإجابة الطلب فنفّذ المدفعي ذلك، و بينما كانت القذيفة تطير في الفضاء في طريقها لرسم أجمل صورة في التضحية والاستشهاد كان صوت خضر يصيح عبر الأجهزة : "حقّقتُ الشهادة والله أكبر" فاندفع صاحبنا وترجّل عن دبابته وتوجّه ليلتحم مع قوة للعدو، إلاّ أنه وجد أمامه عبد الله سليمان وقد غطّت الدماء وجهه، ورسمت بجانبه خارطة للوطن، فألقى عليه نظره اللقاء، ثم أجال بصره حوله فرأى منظراً لا أجمل ولا أروع، فالتراب جبل بالدماء، والدماء صبغت الأعشاب والأزهار، حتى لم يعد هناك بنفسج ولا أقحوان، لم يعد هناك إلا شقائق النعمان،و كان اللون الغالب هو لون الأرجوان، ثم اندفع منطلقا يصيح : الله أكبر لنا النصر وللوطن المجد والخلود، ومضى يقاتل حتى أتته دفعة طلقات غادرة نفذت الأحشاء والكبد، وارتقى معراج الخلود نحو علّيين، وفي لحظاته الأخيرة كان يهيم ببصره فرأى قائده الأعلى قريباً من موقعه في ميدان المعركة، ولاحظ أن عزم إخوانه قد زاد وأصبحوا كالنار سكب عليها النفط فأدرك أن ذلك بسبب وجود القائد الذي لا يعلم إن كان رآه حقيقة أم خيالاً .
وبعد أقل من خمس عشرة ساعة،جاءه أحد إخوانه،فوجد جسده على الأرض، وروحه في قنديل أخضر أما عيناه فكانتا مفتوحتين تنظران نحو الأفق كأنّما ترقبان طلوع الفجر.

وفي ساعات الليل حضر أحد رفاقه إلى بيته لينقل لزوجته نبأ زفافه، فانطلقت منها زغرودة شقت صمت الحزن الصيفي، وخلعت ثوبها الأسود الحزيراني الذي لم يفارقها منذ أشهر تسعة، وارتدت بدلاً منه ثوباً أبيض ونظرت إلى طفلها فرأت ابتسامته كأنها هي الفجر فقالت : كان في الصباح يرقب النور كيف يطرد الظلام ولكنه كان يراه تخيّلاً ،وها أنا أرى الفجرَ الطالعَ وقد دحر موج الليل المتراكم، ومن المذياع، انطلق صوت القارئ : "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا"، وفي اليوم التالي زُفّ مع ستٍّ وثمانين من إخوانه في حفل زفاف جماعيٍّ عظيم، ومنذ ذلك اليوم لا زال الفجر طالعاً والنور متوقّداً ولا زالت المآذن ينطلق منها النداء الخالد : الله أكبر ، الله أكبر، وذلك الصغير أصبح اليوم رجلاً ولا زال يهتف مع الجنود
الله . الوطن . الملك .
الشهادة جائزتنا و للوطن النصر والمجد والخلود

مدار الساعة: وكالة اخبارية مساحتها الكلمة الصادقة
مدار الساعة ـ نشر في 2019/03/20 الساعة 11:56