ذات الوَجْه النَّضر

د. محمد علي الهروط

هَا قَدْ تَبيِّنَ الخَيطُ الأبيضُ منَ الخيطِ الأسود من الفَجْر، بعد أنْ أَفَلَ البَدْر، وَصَدَحت المَآذِن مُكَبِّرةً وَمُذَكِّرةً بربِّ يَوم الحَشْر، فَاستَيقظَ النَّائمُونَ للصَّلاةِ طَلباً فِي كسْب الأجْر، وَأرْدَفُوها بِأدْعِية للتَّعَوُّذ مِنَ الفقرِ وعذَابٍ فِي القبْر، وَلَاح شُعَاعُ الشَّمس مُبْتَسِمَ الثَّغْر، مُؤَذِّناً بِشُروعِ يومٍ منْ أَيَّام الشَّهْر، وَتفتَّحتِ الأزهَارُ بعَبق شَذاها بعد أنْ بَلَّلَها القَطْر، وَغرَّدت العَصَافِير لِتعْزفَ أَجمل الأَلحانِ عَلى أعْذَب وَتْر، وَحَان الاحْتِفاءُ بِأجملِ مَلِكَات القَصْر، فِي يوم عِيدِها الَّذِي عزَّ له النَّظيرُ فِي كُل أيَّام العَصْر.

فيَا أَحِبَّتي هُبُّوا على الفَور، وَغُذُّوا الخُطَى إلى من يَهْوَاها القلبُ فِي السِّرِّ والجَهْر، وَتَسَابَقُوا إلى أَرْقَى أُنْثَى فِي الطُّهْر، فَقَبِّلوا مِنْهَا الرَّأْسَ وَالمُحَيّا وَاليدَ لَا على سبيلِ الحَصْر، واشْرَبُوا مَا تَيَسَّرَ من مَعِين هَذا البَحْر، وَجَدِّدُوا عهدَاً بحَنَان ذاكَ الصَّدْر، الَّذِي نَسِينا أنَّهُ كان دائما الوَزَر، حِينَ نَشْعُر بالمَكْر أو القَهْرِ أو الغَدْر، أو يومَ كُنَّا نُكَابدُ مَشاكِلَ الدَّهْر، وتَنَاسَيْنَا أنَّنا حِين نُصَابُ بِالحُمَّى هِي مَنْ تحْتَكِر المُكُوثَ بجانِبِنا بِالسَّهَر، فَعَانِقُوها عِنَاقَ المُحِبِّ إلى حبيبه بعد الهَجْ ، لِتَصْطَلُوا بِدِفْء عَطْفِ ذَاك النَّحْر، فَهِي مَنْ أعْطَانا دُرُوسَا فِي الحياة أنَّ الزَّهْرَ لَا يَسْبِق البَذْر، وَأنَّ الكَسْر لا يُعَالَج إلا بِالجَبْر، وأنَّ كُلَّ معضِلَة تُصْبِح طَيِّعَةً بِالصَّبْر.

هِي تِلْك الحَسْنَاءُ الَّتِي لم يغْلها المَهْر، وَقَصَر الكَلَام عنْ وصْفِها في الشِّعْر والنَّثْر، حتَّى الأَوتَار الَّتِي تتغَنَّى بِها أَصابَهَا البَتْر؛ لأنَّها لم تَستَطِعْ في لحْنِها أنْ تُضَاهِيَ مَكانتَها فِي القَدْر، وَالطُّبُولُ اعْتَرَاها العَطَب فِي النَّقْر، وَهَا أنَا أُحَاوِل أنْ أَحُلَّ عُقْدَة مِنْ لسَاني لأُفْرِدَهَا مِن النَّثْر بِشَطْر، عَلَّه يُشْفِي الغَلِيل ويُدَاوِي لَوعَة العَلِيل فِي هذا الأَمْر.

يَا أُمَّاهُ أفْرَدُوا لكِ يَومَا يَتيماً منَ العُمُر، وَحدَّدُوهُ في الهَزِيعِ الأخير منَ الشَّهْر، فِي أوَّل ليلةٍ مِن أَواخر لَيَاليهِ العَشْر، فظلَمُوكِ بيوم واحدٍ وأنتِ الأصلُ والجَذْر، ، فَأَنتِ كلُّ الدَّهر وَالعَصْر.

أَمَا وقد حَدَث هذا قَسْرَا وَوَقعْتُ رَغْمَا فِي الأَسْر، فَدَعِيني أُفْضِي لكِ بِسعادتي وسُرُوري بعد أنْ حَارَ القَريضِ في الخَاطِر فَأقُول: قالوا: أيكون المُزاحُ محلّلاَ في مثلِ هذا الأَمْر؟؟ فقلت: مَعَاذَ الله أنْ أَهْجُوَ أَو أمْزَحَ في مثلِ هذا الأَمْر، ولكِنَّني حاولْت الكتابَة مُعْتَقدا أن الكَلام سَيَنْسَاب كَمَاء النَّهْر، إلا أنَّ الحروفَ اسْتَعْصَتْ وَعيَّتْ جوابا وجَفَّ الحِبْر، وتحَسَّسْتُ اليَرَاع فوجَدْته كَالجَمْر، فَخَشِيت أنْ أُصاب بالهَذْر، فأُسَطِّر حروفا تقلِّل من جَلَل الأَمْر، فكيفَ بالله عليكم سَأرتقي سُلَّمَا إلى قامتها أو أُضَاهي قيمتها إن كانت تُحَلِّق فِي الأَوج كَالصَّقْر، وأنا في مُنْتَهى الأرض أَحْبو في أدْنَى الغَوْر؟

فقالوا: يَحِقُّ لك ذاكَ، واجْعَل صَمْتَكَ جواباً أمامَ حُسْنِها، فَالصَّمْت في حَرَمِها جوابٌ لِمَنْ ابْتَغَى السِّتْر والبِرّ. فقلت: لَا أجدُ نفسي كاتِباً سِوَى دُعَائي: يَا ربِّ اكْلَأْ أُمِّي ذاتَ الوَجْهِ النَّضِر، وَكُلَّ الأُمَّهاتِ؛ حتَّى تَقَرَّ أعْيُنُنا بِهِنَّ طِوالَ الدَّهْرِ.